الأحد، 31 مارس 2013

مسرح العبث


مسرح العبث

   بقلم:أ.مجد القصص

أ‌) المسرح العبثي في اوروبا الغربية

العنوان يكتسب دلالاته من معرفتنا بأن اوروبا كانت مقسمة الى كل من اوروبا الشرقية واوروبا الغربية الى ان أدت البروسترايكا في التسعينيات من القرن المنصرم الى تشرذم الاتحاد السوفيتي ودول اوروبا الشرقية الموالية له فكرا ومنهجا. سأعطي اضاءة في الجزء الاول على مسرح العبث في اوروبا الغربية وفي الجزء الثاني سأتناول مسرح العبث في اوروبا الشرقية في محاولة لتغطية الاتجاهيين الملتقيين في بعض المفاهيم والمختلفين  في البعض الاخر.
بداية كان الناقد مارتن اسلن (Martin Esslin)هو اول من ابتكر مصطلح مسرح العبث في كتاباته النقدية عن المسرحيات التي كتبت في الفترة ما بين 1950 - 1960م وهذا المصطلح تم اشتقاقه من بحث "اسطورة سيزيف" الذي قدمه الكاتب والفيلسوف الفرنسي الكبير البير كامو (Albert Camus) عام 1942م. قام كامو في هذا البحث بتعريف الحالة الانسانية بأنها حالة عبثية لامعنى لها متلاقيا مع كل من صموئيل بكيت، ارثر اداموف، يوجين يونسكو، جان جنيه، هارولد بنتر وآخرين كانوا قد قدموا في كتاباتهم فكرة ان الانسان يعيش في كون لا يملك مفاتيحه وكون لا يمكن فك رموزه، بالاضافة الى ان مكانة الانسان في هذا الكون بلا جدوى او معنى، وانه مرتبك، مضطرب، وامنه مهدد.
ان جذور مسرح العبث تعود الى الفترة ما بين 1920و1930م عندما كان بعض رائدي المسرح المحدثين آنذاك يختبرون التجريب في المسرح ولكننا نستطيع ان نؤكد بأن مسرح العبث ما هو الا ترجمة عملية لافكار المدرسة السيريالية الفرنسية التي كانت سائدة في حينه ولكنها اتت متأخرة حيث انعكست في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. كما اننا نستطيع اعتبار افكار المسرحي انطونين ارتو جسرا بين السرياليين والعبثيين حيث طالب بالعودة الى الاسطورة والسحر والى التعرض للنزاعات العميقة في العقل الانساني كما انه طالب بايجاد ميثولوجيا جديدة للانسان ودعا الى ايجاد مسرح قادر على ان يعبر عما تعجز اللغة عن التعبير عنه. كل هذه الافكار حملها جزئيا او كليا العبثيون.
لم يكن السرياليون وافكار ارتو فقط وراء ظهور مسرح العبث بل ان هناك اسبابا اخرى: اولا الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها اثارا مدمرة وغياب القيم والاعراف الصالحة، وحدوثها ادى الى انعدام امن الانسان وفقدان المعنى لحياته التي اصبحت اعتباطية. اما السبب الثاني فله علاقة بصعوبة العيش تحت تهديد القنابل  النووية التي تم استخدامها عام 1945م. ثالثا يمكن اعتبار ظهور مسرح العبث كرد فعل لغياب البعد الديني في الحياة المعاصرة. هذه الحالات مجتمعة التي عاشها الناس والكتاب كانت من اسباب ظهور مسرح العبث ليعبر عن واقع أليم يعيشه الغرب.
 يمكن اعتبار ظهور مسرح العبث بانه محاولة لترميم اهمية الاسطورة والطقوس في حياة الناس من خلال وضع الانسان في مواجهة قاسية مع الواقع والظروف التي تحيط به ويتم ذلك من خلال اعادة زرع الحاسة المفقودة لديه والتي بسبب فقدانها عدم التساؤل عن الحس الكوني وعدم الشعور والقلق الفطري. يطمح مسرح العبث الى تحقيق ذلك من خلال هز ثوابت الانسان ليخرجه من وجود اصبح ميكانيكيا ومملا واتكاليا. من اجل تحقيق ذلك افترضت المسرحيات العبثية شكلا مبتكرا غير مألوف، يهدف الى احداث الرعب والدهشة عند المتلقي وهز حالة السكون لديه وزعزعة راحته ما امكن، بالاضافة الى جعله ينخرط في مواجهة غيبية يمتد مداها حتى اقصى الحدود الانسانية طلبا لاعادة النظر والتشكيك في الحياة والاهتمامات الحياتية التقليدية.
ان الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية اتسمت بالالحاد وعدم وجود معنى، فلم يعد ممكنا فيها ان يتم استخدام نفس المعايير والاشكال المسرحية التقليدية التي لم تعد مقنعة والتي فقدت مصداقيتها، فجاء مسرح العبث مسرحا بمنتهى الوضوحمتمردا على كل الاشكال المسرحية التي سبقته، لذا وكما يقول د. جان كوليك (Jan Culik) "مسرح العبث هو مسرح ضد المسرح (Anti Theatre) فقد كان مسرحا سرياليا، لا منطقيا، بلا عقدة او صراع، يبدو الحوار فيه ضربا من الهراء حيث قوبلت  المسرحيات العبثية بداية اثناء عروضها بعدم الفهم وبالتالي الرفض من الجمهور". 
ان اهم مظاهر الدراما العبثية هي عدم ثقة كتاب العبث باللغة كوسيلة من وسائل الاتصال. اعتبروا ان اللغة قد اصبحت وسيلة لتبادل شيء مؤطر نمطي وبدون معنى، وان الكلمات تبقى سطحية عاجزة عن التعبير عن جوهر تجربة الانسان وانها لا تستطيع التغلغل الى عمق هذه التجربة. لجأ كتاب العبث الى الخطاب المؤطر والمؤسلب الذي يستخدم الكلاشيهات والشعارات والثرثرة التقنية بطريقة تشويهية وتلميحية وتكسيرية. كان الهدف من السخرية من الانماط الحوارية المؤسلبة والمؤطرة يرمي لدفع المتلقي لادراك امكانية وجود ما هو وراء مسلمات الخطاب المعتادة حتى يستطيع تحقيق التواصل بطريقة اكثر صدقا واصالة، لان الخطاب المؤطر يعمل كحاجز بيننا وبين ما هو عليه العالم الحقيقي. أي انه كي نستطيع الاتصال بالواقع الطبيعي لا بد ان نرمي جانبا العكازات الزائفة للغة المؤسلبة وان ننزع عنها اي مصداقية. ان الاشياء المرئية  في مسرح العبث اكثر اهمية من اللغة فالحدث يتجاوز ما يقال عنه، لذا فقد ناضل مسرح العبث لايصال الادراك ككل غير مجزء، ولهذا كان لزاما عليه ان يذهب الى ما وراء اللغة.
من ميزات الدراما العبثية الاخرى بأنها تهدف الى تخريب المنطق وتتطلع الى غير المتوقع والى المستحيل منطقيا. يقول فرويد (Sigmund Freud) "هناك احساس من الحرية نستطيع ان نستمتع به عندما نكون قادرين على التخلص من سترة تكبيل المنطق"، فمحاولة العبثيين لتفجير نطاق المنطق واللغة ما هي الا محاولة لتحطيم الجدران المحيطة بالحالة الانسانية، فاللغة حسب ما هو معروف يتم بموجبها تعريف الهوية الفردية للكائنات ومن خلالها نطلق الاسماء على بعض، ولهذا يعتبرها العبثيون مصدر الانفصال، فكل شيء له هوية واسم يميزه عن الآخر وفي المقابل فانهم يرون ان فقدان اللغة المنطقية سوف يساعد البشرية نحو الوحدة مع الكائنات الحية. لم يكتف العبثيون برفض اللغة والمنطق بل قاموا من خلال كونهم لا منطقيين برفض العقلانية ايضا. جاء رفضهم للعقلانيين تماما كرفضهم للغة لان العقلانيين قاموا بالتعامل مع المظاهر السطحية للاشياء وليس جوهرها وعمقها. الهراء في قاموسهم يفتح المجال لاستراق النظر في المالانهاية كما انه يمنح الانسان حرية تشعره بالنشوة ويجعله على اتصال مع جوهر الحياة ناهيك عن اعتباره مصدرا لكوميديا عظيمة.
من الجدير بالذكر ايضا بان المسرحية العبثية تفتقد الى العقدة الدرامية، فكل من العقدة وقوى الشخصيات والصراعات القائمة بينها تعود الى عالم متدرج السلطات ومقبول به وذي قيم متصلبة والذي شكل مؤسسة دائمة ولذا فان اي عقدة تفقد معناها في وضع اصبحت فيه المؤسسة وواقعها الظاهري بلا معنى. وبغض النظر عن اداء الشخصيات المشوش او المهووس فان هذه النماذج للشخصيات تؤكد حقيقة انه لا يجري اي امر لتغيير وجودهم فوجودهم عبثي لاقيمة له.
الدراما العبثية اقرب ما تكون الى مقولة شعرية ومشابهة للموسيقى الى حد كبير حيث تعتمد على خلق جو او تجربة لاوضاع الانسان النمطية. المسرحية العبثية تقدم لنا حالات واوضاعا على عكس المسرح التقليدي الذي يقدم احداثا متتابعة، وحيث انها تقدم نمطا من الصورة الشعرية لذا فهي تستخدم عناصر بصرية لايصال حالاتها اضافة الى الحركات والانواع المختلفة من الاضاءة. وهي ايضا مغايرة للمسرح التقليدي الذي تكون فيه اللغة هي العنصر المسيطر فاللغة في مسرح العبث هي عنصر واحد من مجموعة عناصر صورية شعرية ذات ابعاد متعددة.
مسرح العبث هو بالكامل مسرح قصيدة يستخدم مؤثرات مشهدية تجريدية مستمد معظمها من المسرح الشعبي (Popular Theatre) مثل المايم، الباليه، الاكروبات، العروض البهلوانية او عروض مهرجي المسرحيات الموسيقية، التي استلهمت الكثير من الافلام الصامتة والكوميدية وتأثرت ايضا بالافلام الناطقة الاولى التي اعتمدت الكلام الذي لا معنى له مثل افلام لوريل وهاردي (Laurel and Hardy). وقد كان تاثير العبثية كبيرا على الكثير من كتاب الرواية امثال كافكا.
من خلال عقد مقارنة سريعة بين هذه الافكار التي سادت في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم مع بعض الاعمال العربية والاردنية في العقدين الماضيين نستطيع ان نستخلص ان العبثية قد وصلت الى عالمنا العربي متأخرة والسبب في ذلك حسب اعتقادي هو حرب الخليج الاولى الثانية والهجمة العنيفة على شعبنا الفلسطيني واثارها المدمرة على شبابنا المخرجين مما حثهم الى اللجوء لنصوص عبثية لتقديمها تعبيرا عن انفسهم وتعبيرا عن الحالة اللاانسانية والانتهاك المرعب للشخصية العربية من قبل المستعمرين الجدد وعسى ان نعبر هذه الازمة كما عبرها الغرب في السبعينيات من القرن المنصرم. 
ب‌)     المسرح العبثي في اوروبا الشرقية:
في الوقت الذي كانت فيه اوروبا الغربية تكتب لمسرح العبث وتجسده على خشبة المسرح بين الفترة من 1950- 1960م وجدت أوروبا الشرقية نفسها تعيش في عالم تشكل فيه العبثية جزءا اساسيا من حياتها اليوميةولكي نستطيع الولوج الى عالم العبث الحياتي وانعكاسه على الدراما في اوروبا الشرقية لابد بداية من القاء نظرة تاريخية على الظروف السياسية والاجتماعية التى كانت سائدة اثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
محاولةهتلر احتلالروسيا أثناء الحرب العالمية الثانية أعطى روسيا فرصتها الكبيرة لان تمد تأثيرها وتحديدا ايدولوجيتها الاشتراكية(السوفيتية)إلى دول أوروبا الشرقية، وبغض النظر عن صحة الادعاء الذي يتبناه بعض المؤرخين من عدمه بان ستالينقام في السنوات الأخيرة من الحرب بتحويل هدفروسيا مندحر النازية الى غزووسط أوروبا وتقسيمها فانه يبقى من الثابت أن أوروباقد تم تقسيمهاإلى معسكرين: معسكر حليفللحلفاء الغربيينومعسكر حليف لروسيا ومعتقداتها الاشتراكية.
قوة الجيش الروسي مكنت ستالينمن تأسيس أنظمة فيدول أوروبا الشرقيةموالية لروسيا ومبنية على الأيدلوجية السوفيتية ومعزولة عزلا كاملا عن باقي دول اوروبا الغربية. هذا المعسكر الشرقي الجديد كان يخضع قبل الحرب العالمية الثانية لأنظمةسياسية مختلفة: إما لنظام إقطاعي ملكي كما هو الحال في رومانيا أو لنظام برلماني غربي كما هو الحال في تشيكوسلوفاكياولكن بعد قدوم السوفيت خضعت لأنظمة على النمط السوفيتي العسكري ومرت هذه الدول بتحولاقتصادي وسياسي قاس حيث تم اعتباره من قبل البعض تجربة مؤلمة.
تعرفنا في السابق على جوهر مسرح العبث في اوروبا الغربية هذا النوع من الفن الذي سلط الضوء على ارتباك وقلق الانسان، هذا الارتباك النابع من حقيقة عدم قدرة الانسان الاجابة على اسئلة وجودية اساسية مثل: لماذا نعيش؟ لماذا يجب ان نموت؟ لماذا لا توجد عدالة؟ ولماذا يعيش الانسان ويتعرض الى هذا الكم من الالم؟
لقد ادعت الاشتراكية في دول اوروبا الشرقية بأنها قادرة على الاجابة على كل هذه الاسئلة بل اكثر من ذلك بأنها قادرة على تخفيف الم الانسان وتحقيق العدالة بين البشر، وأي شك في ذلك كان يعتبر تخريبا. على المستوى الرسمي، كان الاشتراكيون يعتقدون بأنه سيكون كافيا ومقنعا تطبيق المعادلة الماركسية القادرة على تغطية جميع جوانب الحياة والتي ستكون نتيجتها الحتمية هي تحقيق الجنة على الأرض.لقد تبين من خلال نطاق الممارسة العملية على ارض الواقعفي وقت مبكربأن تطبيق المعادلة الماركسية فشلت فيتوفير الأجوبة علىتلك الأسئلةبشكل اقل من الأنظمة الفلسفية معقدة التراكيب التي تم تبنيها في الغرب.إن تطبيقها بالقوةفي الدول الاشتراكيةقد جلب معه الما ومعاناة كبيرة. لقد كان واضحا للبعض منذ البداية أن تطبيق هذه الفكرة المبسطة كان عبثيا ومع ذلك فقد تم جعلها لتحكم جميع جوانب الحياة وكان على الناس أن يتكيفوا معها وان يتمتعوا بها، وان مجرد الشك بها كان يعتبر مخالفة. هذا التطبيق العشوائي للفكر الماركسي المبسط في بعض الأحيان والذي تم جعله يتحكم في حياة الملايين وإجبارهم على سلوك مغاير لطبيعتهم البشريةجعل هذه الملايين يرون بوضوح معادلة العبثية: وهكذا نرى أن الأنظمة التي اعتمدت النمط السوفيتي قد أدخلت إلى حياة أمم بكامل طبقاتها في أوروبا الشرقية ما كان مهما لأعداد قليلة من الأفراد ذوي الحس المرهف في أوروبا الغربية.
هذا التحليل ليس لنصل الى نتيجة بأن عبثية الحياة في اوروبا الشرقية تختلف عن عبثية الحياة المعاشة في اوروبا الغربية بل على العكس، فان العبثية في المعسكرين الشرقي والغربي قد نشأت من غموض وضع الانسان في هذا الكون، امام خوفه من الموت، اضافة الى سعيه الفطري نحو المطلق. الا ان ممارسات السلطةالرسميةفي أوروبا الشرقية التي كانتتنظر بازدراء إلى هذه الأسئلة الوجودية الأساسية والتي اعتمدت على قوة وقدرة المعادلة الماركسية قد خلقت واقعا يجعل من العبثية تجربة أساسية يتم الشعور بها من قبل كل من هو على تماس معهذا الواقع.
دعونا ننظر الى هذه الحالةبشكل آخر، فمسرح العبث في اوروبا الغربية يمكن ان ينظر اليه كتعبيرعن حالة الغضب والإحباطالموجودة عند بعض المتنورين النابعة من أن الناس يعيشون تحت حياة ثانوية نمطية وغير ملهمة، إمابسبب خياراتهم المقصودة أو بسبب أنهم لايعرفون أفضلمن ذلك وانه ليس لديهم أفكار أو قدرة لمساعدة أنفسهم، وعلى الرغم من ان هذا الغضب قد يبدو استعلائيا أوفوقيا إلا انه كان ممزوجاباليأسويتجلى تقديرنا لهؤلاء المتنورين أكثر عند النظر إلى أوروبا الشرقية حين نراهم محقين لإدانتهم الحالة الثانوية والوسطية التي تعيشها الشعوب هناك، على الرغم من أن الكثير من أمم أوروبا الغربية تعيش بسعادة زائفة دون إدراك للحالة العبثية التي تعيشها، حيث أن الفارق هو انه كان من الممكن إدراك ورؤية الآثار الثانويةوالوسطية في أوروبا الشرقية لأنه قد تم رفعها إلى مبدأ حكم مقدس وفردي وهي كانت تحكم بقبضة من حديد. لذا وعلى عكس اوروبا الغربية فلربما اكتشف الشعبفي أوروبا الشرقية بأنالعيشليس مريحا تحت قيادة الحالة الثانوية.
أما عن نشوء مسرح العبث في اوروبا الشرقية فقد ارتبط ظهوره بحالة الهدوء النسبي الذي كان يعيشه المعسكر الشرقي بعد موت ستالين . حيث كان معروفا - وتحديدا في العقد الاول من استلام الشيوعيين الحكم-  بأنه لم يكن مسموحا لاي كان ان يكتب شيئا معتمدا على تجربته الشخصية، وان فعل فان حياته ستتعرض للخطر. ان وظيفة الفنآنذاك كانت محصورة لخدمة الايدلوجية الاشتراكية، اضافة  الى اهداف دعائية للحزب الاشتراكي. الا ان هذا الوضع قد تغير ببطء في السنوات التي تلت موت ستالين عام 1953م. ففي عام 1956م قامت محاولتان للتحرر من العسكريتارية السوفيتية: الأولى كانت في هنغاريا والتي تم قمعها، والثانية في بولندا والتي أنتجت نوعا من التوازن استمر لعدة سنوات. اما تشيكوسلوفاكيا فقد  بدأت بذور التمرد فيها تبرز في نهاية الخمسينيات ووصلت الى اوجها في 1962-1963م. لذا تعتبر الستينيات من القرن المنصرم هي بداية ظهور مسرح العبث في اوروبا الشرقية كتابة وتجسيدا فوق الخشبة، الا انه كان محدودا وانحصر في دولتين هما الاكثر تحررا آنذاك: بولندا وتشيكوسلوفاكيا.
ان مسرح العبث في اوروبا الشرقية، وبلاآ ادنى شك، قد تأثر بمسرح العبث في الغرب الا  انه يختلف عنه من حيث الشكل والمضمون ووقع الصدمة. يلاحظ ان الدراما العبثية الشرقية كانت اقل تجريدا منها في الغربية، اضافة الى ان المسرحيات في الغرب كانت قد تعاملت مع معضلة فرد او مجموعة افراد، وفي وضع تعرية كبير واساسيات ميتافيزيقية. اما في اوروبا الشرقية فقد تعرضت مسرحيات العبث للفرد الواقع في مصيدة النظام الاشتراكي، موصلة بأن النظام الاشتراكي هو نظام متماسك وخطير، والى حد ما واقعي، كل هذا كان يتم من خلال مجازات شفافة . حيث نلاحظ بأن العبثية في المسرحيات الشرقية هي نتاج لافعال من الغباء او لاشخاص مضللين او شريرين. ولا تظهر هذه الادانات بشكل واضح بل بشكل ضمني. اضافة الى ان عبثية الحياة لا يتم عرضها بظروف ميتافيزيقية. نستطيع القول بأن المسرحيات الشرقية اشبه ما تكون الى مسرحيات اشتراكية ناقدة وساخرة. وعلى ضوء ذلك فأن رسالة مسرح العبث في الشرق والغرب لا تختلف في طرق ايصالها الى الجمهور، الا  ان مسرحيات العبث في الغرب قد تكون قادرة اكثر على ايصال افكارها بوضوح اكبر لان كتاب الغرب قد عايشوا ولمسوا تجربة العبث المحيطة بهم. والاختلاف الاخير هوان الغرب عندما توقف عن كتابة مسرحيات العبث في االستينيات من القرن المنصرم كانت الستينيات والسبعينيات في اوروبا الشرقية هي مرحلة التعبير لديهم عن مسرح العبث.
في النهاية وتتبعا للظروف السياسية التي عاشتها دول اوروبا الشرقية لا بد من الاشارة الى ان تشيكوسلوفاكيا قد تعرضت الى الغزو مجددا من السوفيات في عام 1968م بعد محاولتها للتمرد عليه. هذا الواقع الجديد ادى اما الى اختفاء كتاب العبث (اختفاء الكتابة المعبرة عن الفرد) واما الى استمرار الكتابة بغض النظر عن امكانية نشرها او تجسيدها على خشبة المسرح، او الى واقع ثالث وهو الهجرة الى الغرب والاستمرار في الكتابة العبثية، من اشهر هؤلاء الكتاب الذين رحلوا عن تشيكسلوفاكيا هو فاكلاف هافل (Vaclav Havel) حيث كتب مسرحيات كثيرة دافع فيها عن قيم الانسان الاساسية. اما في بولندا فكان الوضع على العكس تماما حيث استمروا في كتابة مسرحيات العبث منذ بداية الستينيات ودون مضايقة من السلطات كما تمت طباعة مسرحياتهم وتجسيدها على الخشبة واستمر هذا الحال الى نهاية السبعنيات من القرن المنصرم.
اخيرا، لقد كان الألم والدمار اللذان خلفتهما الحرب العالمية الثانية في اوروبا وراء ظهور الأسئلة الوجودية الكبيرة على السطح وبالتالي الى ظهور مسرح العبث. كما ان فشل تطبيق المعادلة الماركسية في ايجاد جنة للانسان على الارض كان وراء ظهور مسرح العبث في اوروبا الشرقية. هذا يضعنا امام نتيجة مفادها بأن تحقيق العدالة وتخفيف الام البشرية يحتاج الى نظام ثالث قد يكون موجودا الا انه لم يطبق في السابق ولا حتى في يومنا هذا. اما النتيجة الثانية التي نستخلصها ايضا وهي ان مسرح العبث ليس كبقية المدارس المسرحية الاخرى التي جاءت متمردة على ما سبقها، بل هو مسرح لن يختفي وسيبقى يظهر هنا وهناك، فعندما نرصد ظهور مسرح العبث في منطقة ما فهذا يعطينا مؤشرا بأن هذه المنطقة يتعرض فيها الانسان الى الكثير من الالم، اضافة الى ققدان القيم الانسانية فيها، وعلى ضوء ذلك فأن اختفاء مسرح العبث يعني بأن العالم قد اصبح افضل وأن مقدارا كافيا من العدالة قد تحقق.

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : رشيد شكري