الاثنين، 6 مايو 2013

بنية النص في مسرح الصورة


اوراق مسرحية

ورقة بحثية مقدمة في مهرجان القاهرة الدولي ، الدورة الثانية والعشرين

تعد "لغة الصورة"  أهم مفردات مسرح الرؤى، حيث أصبحت لغة الحوار وحدها لا تكفي، لذا كان  لابد من ترجمة النص من خلال عناصر العرض الأخرى،  كالإضاءة والموسيقى وحركة الممثلين المتناغمة، فإذا ضاعت العلاقة بين عناصر العرض افتقد  التناغم والتوازن في إطاره العام. وينطلق العرض المسرحي من النص ليتحول على يد المخرج  إلى دلالات متعددة تصل إلى المشاهد. وفي أواخر القرن التاسع عشر مرت الحركة المسرحية العالمية بعدة مراحل، حيث تنبأ المسرحي الانجليزي (جوردن كريج) بأن مسرح المستقبل (مسرح رؤى) سيخاطب العين والوجدان والأحاسيس عبر الخشبة، واستطاع (كريج) في تجاربه الفنية أن يضع حجر الأساس لانطلاقة مسرح الرؤى الذي يعتمد على الصورة. وفي نهاية ستينيات القرن الماضي كان المسرحي الأمريكي (روبرت ويلسون) أول من قدم عرضا مسرحيا كاملا ينتمي إلى مسرح الرؤى . 

ويعتبر (مسرح الرؤى) مرحلة تأسيسية متجددة، متدفقة، متمردة على المدارس النمطية المسرحية، وذات بُعد جمالي فلسفي يستلهم مفرداته من التيار التجريبي. وهو ينطلق من فضاءات جمالية، أسطورية وطقسية، نابعة من أسس فلسفية عبر محطات الذاكرة الجماعية الإبداعية، حيث تتدفق من  الصورة معان فلسفية كبيرة منبثقة من حدس(برجسون)، وجدل (شوبنهاور) وأفكار السرياليين في بيانات (اندريه بريتون) والمسوحات اللونية في رسومات الفنان(سلفادوردالي)، كما أنها لا تخلو من أطروحات في الثقافة والميتافيزيقيا واللغة المسرحية في كتابات(انتونان آرتو)...جميع تلك المحطات تصب في النهاية في بنية واحدة لتعلن عن سياقات  جمالية، تمثل خطاب الصورة في معانيها الجمالية والعالمية الواسعة. 

فضلا عن ذلك، يسعى "مسرح الصورة"  إلى هدم قوانين المسرح التقليدية التي تعتمد على لغة المعادلات الرياضية التوفيقية، بغية الابحار في عوالم الحلم الطقوسية والفنتازيا. وهو في رسالته تلك، يشكل صراعا ثنائيا في زمن العرض الفلسفي بين الجمالي(التشكيل البصري) والدلالي (المفهوم الذهني)، إضافة إلى ذلك، فهو يكشف عن أطر  فلسفية تتجاوز الإدراك الحسي، ليرسم عالما افتراضيا قائما على الوحدة الدلالية التي تشكل مفردات الفضاء المسرحي.
  ويعد النص في (مسرح الرؤى) مدونة كلامية اتصالية تقوم الرؤية الإخراجية البصرية باستبدال سكونها إلى حركة ترتبط بمنطقة اللاشعور، حيث الحلم والطقس، بغية تأسيس علاقة بين الطرفين (النص-العرض)، الامر الذي يضفي على النص أشكالا جديدة قابلة للتأويل. وقد أشارت الناقدة (اوبر سفيلد) إلى أنه داخل النص المسرحي مولدات نصية يمكن من خلالها تحليل النص المسرحي، طبقا لاجراءات خاصة تعمل على إضاءة زوايا العرض المنبثقة منه. إلى جانب ذلك، تعمل هذه (المولدات) على كشف الإنتاج التأويلي النابع عن (اللاوعي الإنساني)  الذي يهيمن على التكوين الإنشائي على مفردات العرض، حيث ينظر إلى النص من منطلق الفعل الإبداعي القائم على إحياء النصوص ومفرداتها، بغية الغوص في عوالم الوجود الحية التي تحاور الجمود  والبقاء الساكن، بوصفه نصا كُتب لزمن آخر، منطلقا في رسم حدود التأويل لنص المؤلف الذي كتب بزمن آخر ميت. 
صلاح القصب و مسرح الصورة
  يقول صلاح القصب في أحد تصريحاته عن تجربته في مسرح الرؤى : " إنني لا أتعامل مع نص من النصوص التي دونتها ذاكرة المسرح والدراما. إنني أبحث في النص الذي يشغل مخيلتي، ويدفعني إلى دوائر السحر والهلوسة، وأبحث عن النص الكوني الذي يبحث عن الإنسان وسط تراجيديا هذا الكون المرعب الذي يسحق الإنسان وتراثه العظيم"
كثيرا ما يقرن (مسرح الصورة) في الوطن العربي بتجربة صلاح القصب الذي قدم العديد من التجارب المسرحية، والذي كانت بداياته في اواخر سبعينيات القرن المنصرم، حيث كانت تجربته الأولى من خلال تقديم عرض مسرحية (هاملت) لشكسبير في كلية الفنون الجميلة ببغداد عام 1980م.  وكان ذلك العرض مثارا للنقاش والجدال، بسبب طابعه التجريبي، و لجرأته في تحويل النص الشكسبيري إلى صورة غريبة بدائية الطابع. كما يعتبر هذا المسرح تجربة فريدة  تحاول مواكبة لغة العصر الصورية في ظل الطفرة الحديثة في مجالات الفنون والآداب والاتصالات، لذا كان حريا البحث عن شكل مسرحي  تمتد جذوره من  عالم الأسطورة، حيث الخرافة والطقس إلى العصر الحديث حيث  الذرة والطاقة النووية والصورة الرقمية. من خصائص (مسرح الصورة) لدى صلاح القصب اهتمامه الزائد بالفضاء المسرحي الذي يرتبط بمكان وقوع الحدث، لكونه البؤرة المركزية التي تحقق تواصلا بصريا، بعد أن  يقرر التحليق بعيدا عن النص، على اعتبار أنه حقا مشاع للجميع  قبل أن يخرجه، استنفد مرارا وتكرارا عبر القراءات المتكررة للنص. لذا نجده يسعى لتقديم رؤية إخراجية مغايرة تميزه عن الآخر، وهذه الرؤية عادة تقوم على الدهشة والجدة من خلال  كشفه عن (المكان الافتراضي)، عبر  طيات النفس التي لم يكتشفها بعد الآخر، لذا كان حريا بأن يكون له السبق في الوصول إلى ثنايا النص الخفية للخروج بتجارب الإبداعية.
ولقد قدم المخرج (صلاح القصب) العديد من النصوص العالمية برؤى إخراجية صورية، أهمها مسرحيات شكسبير مثل الملك لير، وماكبث وهاملت والعاصفة ومسرحيات تشيخوف مثل الشقيقات الثلاث وطائر البحر، كما قدم ايضا أحزان مهرج السرك ومسرحية الحلم الضوئي ومسرحية عزلة في الكريستال .. وفي هذه الورقة سوف نركز على ثلاث تجارب شكسبيرية قدمها صلاح القصب في مسرح الرؤى، وهي : (هاملت، مكبث، العاصفة).
أولا:  عرض مسرحية (هاملت): سعى صلاح القصب من خلال إخراجه  لمسرحية(هاملت) إلى صدم المشاهد بنفي حقيقة ارتكابه للجريمة التي دفعته للانتقام لمقتل أبيه الملك، واستبدل ذلك بالتوغل في الابعاد النفسية للشخصية المحورية، حيث ظهر (هاملت) وهو يعاني الانفصام (الشيزوفرينيا)، إضافة إلى الايحاء بأن المملكة تسيطر عليها القوى الشريرة. وبشكل عام، تتسم الرؤية الإخراجية لدى القصب في تجربته هذه بمحاولته إضفاء طابع شمولي أكثر على النص  الشكسبيري، بعيدا عن زمن العصر الشكسبيري الذي كُتب فيه. لكن ينبغي التأكيد على أن رؤية القصب لهاملت وأفيليا بوصفهما شخصيتين متناقضتين، تفصح عن ارتباطهما بالتراث الملحمي والطقسي لشعوب الشرق البدائية. وخاصة عند تجسيده لشخصية هاملت السوداء التي تتصف بالبدائية واللاعقلانية و تخضع للقوى الشريرة.
ثانيا: عرض مسرحية (مكبث) : يتسم الخطاب الصوري في عرض مسرحية (مكبث) للمخرج صلاح القصب بالتخلص من الخطاب الحكائي، بغية تحويله إلى مشاهد وموتيفات غير متوقعه لدى المتلقي. وفي مسرحية (مكبث) لشكسبير قام القصب بأخذ مشاهد نصية قوية التأثير، تتضمن أحداثا درامية ملحمية منبثقة عن سيكولوجية نابعة من مجريات الحتمية للمنجز الاليزبثي بغية تصوير الحدث الدرامي بشكل صوري جديد. وعبر هذا العرض عن الصراع الداخلي من خلال الدلالات السلوكية الظاهرة في المشهد الصوري، وذلك عن طريق دخول الشخصيات ومغادرتها خشبة المسرح بصورة سريعة، بالإضافة إلى توظيفه للدلالات السيميائية من خلال مشهد المركبات في فضاء المسرح (الأبواق، أضواء التجاوز) الذي يتضمن دلالات عدة لتصوير مشهد الصخب والعنف لتجسيد الصراع، فالعرض يستهل بصوت البوق ودخول الشخصيات وينتهي بالدمار والخوف. كما يتكون هذا  العرض من عناصر ذات فعالية مستمرة، مثل ماكينة القطع(المقصلة) التي تظل في حركة مستمرة إلى أن تقضي على (مكبث)، كما تتحول العربة إلى موقد نار إلى حيز رمادي بارد. ودونما شك، تقوم "الإضاءة" بدور أساسي في مسرح الصورة، ويتضح ذلك في هذه المسرحية من خلال محاصرة مكبث في الميدان والمشهد الدموي الذي عقب ذلك، حيث وظف القصب الومضات اللونية لتفعيل الأبعاد السيكولوجية التعبيرية وخلفياتها الدموية، خاصة عند  تصوير عقدة (بقعة الدم)  لدى السيدة ماكبث باستخدام الدلالة اللونية التي تعبر عن الشعور الداخلي للشخصية.

ثالثا : عرض مسرحية (العاصفة): يسعى المخرج صلاح القصب من خلال تجربته في عرض (العاصفة) للعصف بالذاكرة الجماعية، بغية إيقاظها من سباتها العميق، لتقديم صورة معاصرة حديثة. مع إبراز الرؤى الفلسفية التي تجد حيزا كبيرا للتطبيق من خلال تركيب النص المسرحي وفق رؤى تقوم على اختزال تصوراته المتعددة من خلال اللغة المادية التي تحل محل الكلام في بعض المشاهد من خلال الاستعانة بشرائح الفيلم السينمائي والعجلات الزجاجية ومناضد بليارد وآلة الكتابة لتجسيدها. إلى جانب ذلك، يتوغل القصب في العوالم الداخلية لشخوصه، وخاصة المحورية منها، وذلك بهدف  البحث عن الدلالات الجمالية للنص لتقديمها بشكل صوري. ولكنه في الأغلب لا يقدم تلك الصور جميعا، وإنما ينتقي الأفضل منها، فهناك عشرات من الصور التي يبتكرها المخرج، إلا أنه  يستقر بعد العديد من التجارب على صورة واحدة تدهشه وتكون محور اهتمامه، وهي الصورة ذاتها التي  يحاول إيصالها للجمهور.  ويرى ناجي كاشي إن صلاح القصب في عرض (العاصفة) يقدم صورة مفككة بغية تحقيق نوع من الغرابة في النص الشكسبيري، الذي بدوره يعتمد على الأسطورة والسحر والطقس، دون أن يعزل المشاهد عن الحدث المقدم بصورة جمالية يلتحم فيها الماضي مع الواقع المعاصر، ولكنه في نفس الوقت قدم تلك الصورة بشكل غير مترابط، بغية تحفيز ذهن المتلقي بصورة إيجابية  قائمة  على التجميع واستنتاج المضمون. 
ختاما... يظل (مسرح الرؤى) مثار جدل واهتمام لدى النخبة المسرحية المغرمة بحس التجريب التي تبحث عن الجديد، فهو فن يخاطب الرؤية البصرية التي  تتغلغل للبحث في مفرداته في مخيلة المشاهد لكي يثير فينا  الدهشة والتساؤل. ولا يزال ( مسرح الصورة)  ضيفا  لطيفا على وطننا العربي،  حيث  يميل السواد الأعظم من الجمهور إلى المسرح الحواري، فما بالك بالخليج العربي إذ أن تجارب مسرح الرؤى بسيطة أو نادرة. وبالمثل في سلطنة عمان لم نشاهد تجارب مسرحية لهذا النوع المسرحي، بحكم حداثة التجربة المسرحية، بالإضافة إلى انخفاض شعبية المسرح باستثناء الموسمية فيها. والأهم من ذلك غياب المخرج الذي يمكن أن يتبنى هذا التيار في إخراج مسرحيات عمانية على غرار (مسرح الرؤى) وإن كانت هناك بعض التجارب الحديثة، إلا أنها تظل في منأى عن مسرح الصورة

المصدر من هنا 

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : رشيد شكري