السبت، 7 ديسمبر 2019

نحو مسرح ثالث‮ ...‬ مسرح‮ ‬يعيش على‮ ‬الأطراف وخارج ‬العواصــم وفي‮ ‬الضواحي‬‬‬‬

المسرح الثالث هو مفهوم وصل إلينا من خلال النفي (نفي نوعي المسرح المؤسس والطليعي وليس جزءًا من المسرح الطليعي ولا هو جزء من المسرح المؤسس. فإن لم يكن أيًا من النوعين، فما هو؟ ويبرز هذا البرهان للبعض الصورة السالبة للمسرح الذي يعيش يوما بيوم، مسرح يفتقد للهوية الذاتية، والذي يحيا في ظل النوع الأول أو النوع الثاني من المسرح الذي يتمني سرا أن يكون جزءًا من أيهما.

ونقد المسرح الثالث هو إساءة قراءة لتعريف "باربا" الذي يستمد مفهوم المسرح الثالث من عملية الاستبعاد، ولكن يكاد المصطلح أن يكون سلبيا. ولتقويم الطبيعة الإيجابية للمسرح الثالث عند "باربا لا بد لنا أن نفهم أجزاء البرهان التالي: "يعيش المسرح الثالث على الأطراف خارج العواصم والمراكز الثقافية وفي الضواحي. إنه مسرح يبدعه أناس يعرَّفون أنفسهم بأنهم ممثلون ومخرجون وعمال مسرح، مع أنهم لم يخضعوا إلى تعليم مسرحي تقليدي، ولذلك لا يمكن تمييزهم باعتبارهم محترفين. ولكنهم ليسوا هواة أيضا. فهم يقضون يومهم في التجارب المسرحية، من خلال ما يسمونه أحيانا تدريبات، ومن خلال إعداد العروض التي يجب أن يحاربوا حتى يجدوا لهذه العروض مشاهدين".

وفي مقابلة عام 1977  أقر "باربا" أن مفهومه للمسرح الثالث قد تطور من محاولته لتفسير الانحرافات ذات المعنى عن التيار المسرحي الرئيسي، مثل حركة المسرح المستقل في إسبانيا، التي تضمنت أكثر من تسعين جماعة مسرحية، وجماعة مسرح "فيلدجلينج" في الدانمارك، وجماعة انفجار في أمريكا اللاتينية. بمعني أنه يبدأ برهانه بمقولة إيجابية ضمنية أن الحركة المسرحية المستقلة موجودة، ثم يستنتج أنه يختلف عن المسرح المؤسساتي والمسرح الطليعي، وهما النوعان الأكثر شيوعا في المسرح، ويخلص إلى أنه يجب أن يكون له وجود مستقل. فهل يقرر "باربا" أنه مسرح أدني من المسرح المؤسساتي والمسرح الطليعي، وهل لا يوجد شيء في مشواره الفني يشير إلى أن المسرح الثالث أدنى منهما.
وفي المقابلة نفسها، أقر "باربا" بشكل إيحائي بمفهومه للمسرح الثالث. ورغم ذلك برهن أن هذه التضمينات تدين التمييز العنصري الموجود في نوعي المسرح (المؤسساتي والطليعي) فضلا عن مساواة معني المسرح الثالث بمعني الدونية في مصطلح العالم الثالث، أو رغبة مواطني العالم الثالث أن يكونوا جزءًا من العالم الأول. وفي أواخر السبعينيات ذهب "باربا" إلى أبعد من ذلك لتحديد التمييز العنصري باعتباره سمة محددة للمسرح الثالث، حين يقول "الجماعات التي أسميها المسرح الثالث لا تنتمي إلى مسرح معين، أو نزعة مسرحية بعينها. ولكنها جميعا تعيش في موقف تمييز شخصي أو ثقافي أو اقتصادي أو مهني أو سياسي".
وفي أحد المقالات التي تأمل فيها المسرح الثالث في ضوء التطورات والثمانينيات وأوائل التسعينيات، أنكر "باربا" أن التمييز العنصري لم يعد السمة المحددة لهذا المسرح. فالمسرح الثالث الحديث عند "باربا" هو المسرح الذي يهتم المشاركون فيه بالمعاني. واليوم يتضح لي أن السمة المميزة له هي البناء المستقل للمعني الذي لا يراعي الحدود المنسوبة لمهنتنا من خلال الثقافة المحيطة بمعنى أن أعضاء المسرح الثالث هم أولئك المهتمنون باكتشاف لغة الأداء التي تقدم معنى مستقل لصناعة المسرح، فضلا عن الخضوع إلى الاعتبارات التجارية أو تيارات الطليعة الحالية.
هذا التغير في تفكير "باربا" ليس بعيدا عن فهمه الأصيل للمسرح الثالث كما يبدو. ففي مقالة الأول عن المسرح الثالث (الذي نشر بالفرنسية عام 1976 ) وصف الطرق التي ينجح بها أعضاء المسرح الثالث في الاستمرار. وأول سبيل من خلال الدخول إلي مجال المسرح الراسخ، والسبيل الثاني هو تعريف مفهومه الأخير للمعني المستقل: "تستطيع جماعات المسرح البقاء عن طريق النجاح من خلال العمل المستمر لتمييز مجالهم، وسعيهم إلي الضروري لهم، ومحاولتهم دفع الآخرين لاحترام هذه التعددية".
سوسيولوجيا المسرح الثالث
يعد البعد السوسيولوجي أكثر أهمية من الجماليات في المسرح الثالث. وبعكس كل من المسرح المؤسسي والمسرح الطليعي، حيث بؤرة التركيز فيهما على الإنتاج والتأمل ونشر الثقافة، فإن التركيز في المسرح الثالث على العلاقات:
العلاقات بين الذين يعملون في مجموعة واحدة، في علاقتهم بجماعات أخرى، وعلاقتهم بالمشاهدين. وهذا التركيز على شبكة العلاقات في المسرح الثالث له أصل في داخل الفرد ودوره الجمعي.
وفي المسرح الثالث هناك فرق بسيط بين الحياة الشخصية والحياة المهنية. لأن الكيفية التي يُصنع بها المسرح لها الأولوية على ما يتم تقديمه. فالشكل والمضمون أقل أهمية من الفلسفة الاجتماعية والثقافية للجماعة، وكيف أن هذه الفلسفة تكون مدركة في عمل الجماعة اليومي وتنعكس في عروضها. ولكن فشلت هذه الهجمات في أن تضع  في اعتبارها التضمينات الاجتماعية السياسية التي لها الأولوية على ما يتم تقديمه – وهو الاكتشاف الفعلي لمنهج "باربا" في المسرح. فمسرح "أودين" يشجع عملية التدريب التي يطور فيها تدريباتهم ويكونون مسؤولين عنها في الوقت نفسه.

وبالمثل يلعب الممثلون الدور الرئيسي في إبداع الميزانسين خلال التدريبات، ويساعدون في تصميم وبناء المشاهد لكل عرض، ويصممون الملابس ويصنعونها ويساعدون في عمل الدعاية أيضا.

وبالإضافة إلى هذه الأخلاقيات في الإبداع الجماعي وتحمل المسؤولية، تؤكد جماعة مسرح "باربا" عللا علاقتها بالآخرين الذين يشاركونها في تناولها للمسرح. فأعضاء مسرح "أودين" يحافظون على اتصالهم الشخصي مع كثير من جماعات المسرح والمثقفين في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وبدرجة أقل في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقدمون تعليقاتهم على عروض الممثلين الشباب، وتقديم المشورة وإدارة الورش المسرحية.
وللمحافظة على هذا الاهتمام بالاتصال الشخصي، يفضل "باربا" أن يقوم بجولات فنية ينظمها مسرحه في "أودين". وبهذه الطريقة يشجع هذه الجماعات التي تدعوه، تتيح له توسيع اتصالات مع مجتمع المسرح، فضلا عن كونه مجرد فرقة مسرحية تمر في جولة. ويري "باربا" أن هذا النوع من الارتباط هو الأساس في بقاء واستمرارية المسرح الثالث.
المسرح الثالث ليس مؤسسة رسمية لها مركز رئيس في مكان واحد وأعضاء يدفعون رسوما. بل هو انحياز طوعي يقوم أساسًا على الاتصال غير الرسمي (الحكومي). وأبرز الجماعات التي ارتبط معهم "باربا" في تجمعات المسرح الثالث في عدة دول منذ عام 1976 الذي حدث في بلجراد هي: "مدينة بير جامع" في إيطاليا عام 1977 وفي "مدينة أياكوشو" في بيرو عام 1978 وفي مدينة "لوكيتو" في أسبانيا عام  1979 ومدينة "زاكاتكاس" في المكسيك عام  1981ومدينة "باهيا بلانكا" في الأرجنتين، و"كوزكو" في بيرو عام  1987  و"شكا لكايو" في بيرو عام  1988 وكل هذه اللقاءات مع اختلاف كل منها عن الآخر بدقة إلا إنها بالشكل نفسه. إذ يتكون الجزء الرسمي من البرنامج من عدة ورش تدريبية يقودها مؤدون في مسرح أودين: محاضرات في التدريب وأساليب الفن الدرامي ويقودها "باربا" أو مخرجون آخرون مثل "ماريو ديلجادو" الذي يقود جماعة "كواترو تابلس وحلقات درس حول مختلف الموضوعات "مثل دور العنف في مجتمع بيرو وقادها "خوان كارلو شكالكايو واستخدم أساليب "اتيين ديكرو" في المايم كمصدر للتدريبات بقيادة "لويس أوكتافيو" في باهيا بلانكا. والصورة الأكثر قيمة لهذه التجمعات تعطي شكلا ثابتا في المواجهة الرسمية بين أعضاء المسرح الثالث. الذين نادرا ما يتقابلون.
المقايضة:
وهي مصطلح طبقه "باربا" على المسرح في أوائل السبعينيات ويرتبط بشكل صميم بمفهوم العلاقة التي يندرج تحتها المسرح الثالث. فكما هو الحال في المقايضة بالمعنىالاقتصادي فإن المبدأ المميز للمقايضة المسرحية هي التبادل أيضا. إلا أن سلعة التبادل في المقايضة المسرحية هي الأداء.
إذ يؤدي) لـ وبدلا من أن يدفع له) ثمنا من النقود، يؤدي) لـ). وعندئذ يتم تبادل الأداء المسرحي بالأغنيات، والرقصات بعروض الأكروبات، والقصيدة بالمونولوج... إلخ.
المقايضة والتبادل الثقافي:
المقايضات هي نقاط الاتصال بين الثقافات، ففي المقايضة تقابل الثقافة الصغرى للفرد أو الفرقة المسرحية الثقافية الكبرى للأخرين. ويتحقق هذا اللقاء من خلال تبادل الأداء، بمعنى المنتج الثقافي ولكن هذا المنتج ليس هاما في ذاته، بل الأهم هو عملية التبادل نفسها. ولا مجال لتبادل غير متكافئ في هذه المقايضة، لأنه لا توجد قيمة محددة مسبقا لما يتم تبادله.
وأسبقية عملية التبادل على المنتج الثقافي في المقايضة يستدعي القيمة التقليدية للمسرح للاستفسار. ففي النموذج التقليدي يتم تبادل الأداء المسرحي بالمال.
إذ يقاس الأداء في إطار الخاصية الجمالية والقيمة النقدية.
لكل مقعد في قاعة المسرح، وهذا النموذج مرفوض في المقايضة الثقافية التي يتم فيها تبادل منتج ثقافي بآخر.
لأن قيمة التبادل هنا تكمن في التبادل نفسه وليس فيما يتم تبادله، ولذلك فإن القيم الجمالية والنقدية غير ملائمين هنا.
والتأكيد على التبادل الثقافي بالمقايضة لا يعني أنه دون جدول أعمال من وراء هذا اللقاء بين الثقافي. فقد طلب بعد رؤساء القرى في جنوب إيطاليا من مسرح "أودين" مساعدة أهل القرية، إذ طلب مسرح "أودين" من الناس أن يقدموا معلومات لإصدار مطبوعة عن المنطقة. وأراد شباب قرية "مونت سيس" أن تكون لهم مكتبة، فطلب مسرح "أودين" من أهل القرية التبرع بالكتب للمقايضة، فشكلت هذه المساهمة الأساس لمكتبة القرية. وفي قرية "أولالاي" طُلب إلى أهل القرية أن يقدموا آلاتهم الموسيقية القديمة والقصص التي يتذكرونها عن ماضي القرية، لكي يؤسسوا أرشيفا للقرية.
الفعالية الاجتماعية الثقافية لجماعة المسرح:
يعرف "باربا" المسرح بأنه شكل للعمل الاجتماعي إذ يقول "ما هو المسرح؟. إذا حاولت اختزال هذه الكلمة إلى شيء ملموس، فإن ما اكتشفه هو أناس يشتركون معا. فالمسرح هو علاقة خاصة في سياق مختار، أولا بين الناس الذين يتجمعون معا لإبداع شيء، ثم يشاركون بهذا الإبداع مع الجمهور". يحدد هذا التعريف ما يعتبره "باربا" القواعد المزدوجة لجماعة المسرح، والفعالية الاجتماعية داخل الجماعة، وعلاقة الجماعة بمن هم خارجها من خلال العمل المسرحي.
داخل الجماعة:
التفاعل الداخلي هو أحد أهم صور جماعة المسرح.
ويؤكد أن عملية التبادل هي المهمة، لأن الأداء محدود زمانيا، من خلال الأداء المحتفظ به في الربرتوار، والأداء الذي لا يستغرق أكثر من بضع ساعات يوميا، وأن المنتج النهائي لعملية أطول داخل الجماعة – وهذا يعني الكيفية التي تخلق بها الجماعة عروضها وحياتها المهنية. ويبرهن أن هذه العملية هي التي تحدد مكانها وتأثيرها في المجتمع لأنها تقدم الاكتشاف لاستراتيجيات بقاء الجماعة، وأخلاقياتها المهنية وجمالياتها.
الجماعة وجمهورها:
برغم نزعته الاجتماعية السياسية، يعترف "باربا" أن المسرح لا يستطيع أن يغير المجتمع ككل. لذلك يؤكد أنه يمتلك الطموح لتغيير كل من أولئك الذين يصنعون المسرح من خلال جعله طريقة للحياة، فضلا عن كونه مجرد حرفة، وأولئك الذين يتواصلون مع الناس الذين يجعلون المسرح مركز حياتهم، حين يقول: "إننا نبني شيئا مستقلا، لكنه يتغير طول الوقت، شيئًا يغير رؤية المسرح. ففي أوروبا وفي كثير من البلدان الأخري، نحن المقوم الذي يغير كثيرا من الأشياء. فالمسرح يمكن أن يغير نفسه، لكنه لا يمكن أن يغير المجتمع، ولذلك إن غيرنا المسرح، فإننا نغير شيئاً صغيرًا في المجتمع، لكنه شيء مهم جدا.
وفي النهاية، ما هو تأثير ستانسلافسكي؟ هل أثر على المتلقين أم أثر على عصر المسرح، أم أثر علي تاريخه الذي جاء من بعده؟ عندما نغير المسرح فإننا نغيره من أجل مشاهديه، نغير في طريقة المشاهدة وفي المفهوم والرؤية المفاهيمية". إن القيمة الاجتماعية للمسرح عند "باربا" هي الطريقة التي يشرع بها الذين يصنعونه في عملهم، فضلا عن المضمون السياسي الاجتماعي للعروض. ورغم أن بعض أعمال فرقة "أودين" لها أصل في الأفكار السياسية، فإن الاهتمام السياسي الرئيسي في أعمال الجماعة يكمن في

الاتصال بين الأعضاء وأولئك الذين يستضيفونهم في الجولات.

ومفتاح فهم منهج "باربا" في المسرح هو تأكيده علي عملية المبادلة. علي الرغم من أنه يعترف بقيمة التعليق السياسي الاجتماعي والجماليات، التي هي ذات قيمة أقل في نظره من العملية التي تصل من خلالها الجماعة إلي هذه الجماليات.

فالمقايضة بتأكيدها علي لقاء الثقافات هي، من عدة وجوه، جوهر أفكار "باربا" المسرحية. ولو تحدثنا بشكل اجتماعي فإن المسرح عنده هو نقطة الاتصال بين الثقافات التي يكون فيها التبادل مهما مثل خصائص ومضمون المنتج الذي يتم تبادله. من الإنصاف أن نقول إن أحد أهم إسهامات "باربا" في تاريخ المسرح هي محاولته لفهم القيمة الاجتماعية عند الذين يصنعون المسرح.
احمد عبد الفتاح



 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : رشيد شكري