الأحد، 31 مارس 2013

الميم والبانتومايم Mime and Pantomime


 نشأة الميم والبانتوميم (Mime and Pantomime):
ساحاول في هذا البحث المصغر ان اعرف القارئ على كلا الموضوعين وان اشرح الفرق بين هذين النوعين من فنون المسرح وأسباب اختلاط الأمر عند البعض على أنهما فن واحد يعبر عن التمثيل الصامت. ان هذا اللبس له اصوله التاريخية التي سنتتبعها لنرى أن هذين النوعين كانا في فترات تاريخية يعبران عن نوعين من الفنون يحمل كل منهما صفاته الخاصة، وأنهما في فترات لاحقة أصبحا يعبران عن نفس الشيء مع الإيضاح بأنه في يومنا هذا لا يزال البريطانيون يفرقون بينهما. لذا سنبدأ بالحديث عن جذور المايم والبانتومايم عند الاغريق والرومان

الميم عند الاغريق وهي كلمة قديمة وتعني تقليد الحياة(Imitation of Life)  قد أتت الكلمة من الكلمة الاغريقية القديمة (Mimos) وقد بدأ هذا النوع يتشكل من نفس القاعدة الاساسية التي نشأ منها المسرح وهي الرغبة والحاجة عند الانسان للتقليد واللعب وإضافة التفاصيل والزخرفة على امور الحياة اليومية.

لقد بدأ هذا الفن في مسرح ذيونوسيوس في اثينا (ذيونوسيوس عند الإغريق هو اله الخمرة والخصب والمسرح وعرف أيضا عند الرومان باسم باخوس) وقد كان يعرض أمام جمهور يزيد عن العشرة الالاف مشاهد حيث يقوم ممثلون بالتمثيل في الاماكن المفتوحة واثناء النهار. كانت هذه العروض تقام في المهرجانات السنوية على شرف الالهة وكان يصاحبها تقديم النذور للالهة والولائم. من الجدير بالذكر ان ممثلي هذا النوع لم يسمح لهم ابدا ان يصبحوا اعضاء في جمعية فنانين ذيونسيوس لأنهم كانوا اقل رتبة من الفنانين الكبار امثال اسخيليوس وسوفكليس وغيرهم. من الجدير بالذكر أن هذا النوع من الفن لم يصبح منتشرا إلا في الفترة الهليسنتية وتحديدا في مناطق شرق المتوسط ( هذه الحقبة التاريخية التي نتجت عن غزو الاسكندر المقدوني للشرق ونتيجة تزاوج الغازي الإغريقي مع الشرق سميت بالعهد الهلينستي).
يرافق هذه المسرحيات القصيرة نوعا ما التي لا يتجاوز طولها المائة بيت أوسطرالرقص وتقليد الحيوانات والطيور والغناء، ويجب الانتباه إلى أن الجوقة هي التي كانت تروي الحكاية في حين يقوم ممثلو المايم باداء الحركات والاشارات المختلفة أثناء ذلك. يعتبر هذا الفن هو أول عرض ترفيهي في التاريخ سمح للنساء بالمشاركة فيه: فنحن نعرف بأن الرجل في المسرحيات الكلاسيكية القديمة كان يقوم بدور المرأة وكان يرتدي قناعا نسائيا ليدلل على الشخصية وقد استمر الحال كذلك حتى عند الكاتب الإنجليزي الكبير "وليم شكسبير"حيث نعرف بأن الصبيان هم الذين كانوا يؤدون دور المرأة في مسرحياته التراجيدية والكوميدية. 
كان المايم في بداياته عند الاغريق يسمى فليكس (Phlyakes)وكان الممثلون يرتدون ملابس حيوية مكونة من رداء الشيتون القديم (هو نفس الرداء  عند الرومان والمعروف بالتونك) اضافة الى ارتدائهم اقنعة مبالغ بها.ومع أنهذا النوع كان اقرب إلى الارتجال من خلال تناول مواضيع فجة تتعلق بالحياة اليومية مثل:الضرب، السرقة، الشراهة وتقليد ممارسة الجنس، إلا أن المصادر التاريخية تؤكد وجود الكتاب الاغريق الذين كتبوا هذه المسرحيات  وان تم التأكيد على ان الارتجال حول النص الاصلي بقي موجودا. من هؤلاء الكتاب: "ايبشارموس"في القرن الخامس قبل الميلاد و"سوفرون" 430ق.م و"هيرودس"الذي عاش في الاسكندرية في النصف الاول من القرن الثالث وله ثماني مسرحيات قصيرة وهيما زالت موجودة حتى يومنا هذا ومنها "الزوجة الغيورة". لقد تم العثورفي مصر في احد الحفريات على بعض ابيات من مسرحيات البانتومايم التي تؤكد على التركيز في تناول المشاهد الجنسية كوقوع المراة في حب عبدها الذي يحب عبدا آخر في نفس الوقت ولكنه يتجاوب معها أيضا وكيف ان المرأة تقرر التخلص من زوجها وذلك بعمل احتفال يحتسون فيه الخمر وبعد سريان مفعوله تقوم هي بتسميم زوجها وتنجح في تنفيذ خطتها لتبدأ بالندب أمام الجثة حتى لا يكتشف امرها، الا ان بقية القصة غير معروفة.
أصبح هذا الفن لاحقا يقدم كفواصل بين المسرحيات الكلاسيكية القديمة او عند انتهاء المسرحية.
تميز هذا الفن من حيث أداء الممثل بأنه فن الاداء الصامت لان المسرحية ممكن ان تفهم من خلال الايماءات والاشارات. وقد اشتهر الممثل الاغريقي تيليتس(Telestes) بقدرته على توصيل المعلومات من خلال حركة يديه في عام 467 ق.م.قدم اول ظهور له كممثل في مسرحية سبعة ضد طيبة وقد اشتهر على قدرته في ايصال الاحداث بالستخدام يديه فقط وان معظم المسرحية ممكن ان تفهم بدون سماع الكلمات وذلك بسبب تعابير وجهه القادرة على التوصيل وحركاته الايمائية.
 المايم "فن التمثيل الصامت"الذي عرف عند الاغريق انتشرفي عهد الامبراطورية الرومانية حيث اخذ شكلين، المايم والبانتومايم . والذي سنشرح تطورهما في الحقبة الرومانية لنرى الفروقات بينهما. 

إن أول من مثل المايم في العهد الروماني هو ممثل يدعى ليفيوس اندرونيكس (Livius Andronicus) الذي فقد صوته اثناء اداءه لاحدى المسرحيات الكلاسيكية القديمة فاضطر ان يستخدم الايماءات والاشارات عوضا عن الحوار.لقد كانت هذه المسرحيات أيضا في العهد الروماني تقدم في المهرجانات والاحتفالات على شرف الهة الخصب وقد تم التأكيد من قبل المؤرخين على أن ممثلات عاريات كن يشاركن في هذه العروض أيضا. اعتمد المايم الروماني ايضا على قصة قصيرة وقد رافقه كل من ابتلاع السيوف،الرقص، الغناء، الشقلبات والحركات الاكروباتية.
لقد كان المايم والبانتومايم  جزءا من العرض المسرحي الروماني، وكلاهما كان صامتا ولكن الفروق الرئيسية بينهما تنحصر في النقاط التالية :
· اولا: البانتومايم اكثر تعقيد واعمق من المايم السطحي في الشكل والمضمون.
· ثانيا: ممثل المايم لا يرتدي قناعا بل يعتمد على وجهه لتوصيل التعبير والاشارات والايماءات، بينما ممثل البانتومايم يستخدم قناعا له فم ليعطينا مؤشرا للانتقال من شخصية إلى أخرى.
· ثالثا: ممثل البانتوميم هوفي الحقيقة راقص ويقوم بأداء رقص شبيه برقص الباليه الحديث – أو ما يسمى تحديدا"الباليه ميم" (الفرق الجوهري بين الباليه والباليه مايم يتلخص بأن حركة اليد أو القدم تقرأ في "الباليه مايم" مثل إشارات الصم والبكم فعلى سبيل المثال لو وضع الممثل يده على قلبه فهذا يعني كلمة الحب الخ) وعليه فإن البانتومايم الروماني يعتبرالآن المرجعية الرئيسية لفن "الباليه مايم".
· رابعا: يتم اختيار ممثلي المايم اما اعتمادا على جمال اجسامهم او لقباحتهم المضحكة ويقومون بالتمثيل الصامت تنسيقا مع الحركة، الإيماءة، الإشارة والرقص. من الملفت للانتباه بأن ممثلي المايم عادة ما كانوا من عامة الشعب، ولم تضم أحدا من طبقة النبلاء . الملابس التي يرتدونها تتكون من رداء التونك اضافة الى ارتداء القبعات، والممثلون الذين يمثلون شخصية الانسان الابله (المهرج لاحقا) يرتدون جاكيتا مرقعا ويحلقون رؤوسهم في حين ترتدي بعض الشخصيات الأخرى ملابس المجتمع الراقي . هناك دائما في هذا الفن شخصيات نمطية ثابتة لا تتغير مثل الزوج المخادع، الرجل الشره او الزوج الغبي وملابسها لاتتغيرأيضا وهي شخصيات مضحكة. أما الإكسسوارات فلم تتعد استخدام القبعات او السيف. وعادة يصبح هؤلاء الممثلون مع الوقت مشهورين لهم معجبيهم وينالون الشهرة والمال. وقد سجل الأثر في القرن السادس الميلادي حادثة زواج إحدى مشاهير ممثلات المايم في حينه "ثيودورا"  من الإمبراطور "جوستنيان".أما  ممثلو البانتومايم فيمتازون بأن لهم أجساما رياضية وبلباس "التونك"الطويل إضافة إلى عباءة تعطيهم الحرية في الحركة.
· خامسا : من الملفت للنظر أن البانتومايم الكوميدي كان قد عاش لفترة قصيرة ثم اندثر وأن البانتومايم لا يعتبر فنا كوميديا بل فن تراجيدي حيث أن مواضيعه غالبا ما تكون مستقاة من الميثلوجيا الإغريقية في حين أن المايم يعتبر فن المسخرة ومواضيعه مستقاة من الحياة اليومية.
عند الرومان سواء كان العرض "مايم" أو "بانتومايم" فإن طقوس العرض تكون على الشكل التالي:  تبدأ الاوركسترا بالموسيقى الافتتاحية ثم تظهر الجوقة وبعدها الراقصون ومن ثم ممثلو المايم او البانتومايم ثم يقوم أحد الممثلين مرتديا قناعا له فتحة تناسب الفم بالتعريف عن المسرحية ويعطي شرحا موجزا لقصتها والإعلان عن هذه المشاركة قد يكون على النحو التالي : يحيا القيصر، يحيا الجميع ،باسم القيصر النبيل، اليوم هو اليوم الاول من آب، سنقدم "بانتومايم"من تأليف "ليفس اندرونيكس"تحت عنوان "رومالوس" (Romalus)وسوف تمثل من قبل بيلدس والذي يمثل دور الإله ويرافقه أتباعه وخلال لحظات ستتمكنون من التصفيق لهم جميعا،اشكروا القيصر النبيل. ونلاحظ في هذا الاعلان بأنه قد تضمن اسم الكاتب والممثل، وبعد ذلك تبدأ الجوقة براوية المسرحية ويقوم ممثلو المايم او البانتومايم بتقديم العرض.
هناك نوع آخر طريف من المايم عرف في العهد الروماني وهو"مايم الأموات" ويسمى للذكور ارشيميموس (Archimimus)وللاناث ارشيميما  (Archimima)ويتلخص هذا النوع بأنه حين يتوفى لاحد العائلات قريب بقومون باستدعاء الفرق اما النسائية أو الذكورية حسب جنس المتوفي ويقوم هؤلاء الممثلون بارتداء ملابس المتوفى او المتوفاة وتقليد لمحات من حياة الشخص المتوفى في حين يقوم المسؤول عن الفريق الذي يرتدي الملابس السوداء ببعض حركات الرثاء اثناء اداء ممثلي المايم لطقوسهم. هذا النوع يذكرنا بفرق الندب المصرية التي يتم استئجارها حتى يومنا هذا للبكاء والندب على الميت.
نوع آخر حزين لفن البانتومايم:  فبالإضافة إلى عروضهم في المسرحيات المنتظمة الا انهم كانوا ايضا يقدمون عروضا في المدرجات الرومانية الرياضية (الأرينا) والتي كما ذكر التاريخ لنا كانت قد اخذت في بعض الاحيان اشكالا دموية لا إنسانية . على سبيل المثال في احد مهرجانات سباق العربات وفي فترةالاستراحة تذكر حادثة لأحد ممثلي البانتومايم والذي كان مجرما حيث كان قد قام بتقليد مشهد عناورفيوس الذي يظهر من الأرض السفلية "ارض الموت" ويعزف الموسيقى وتطرب لعزفه الحجارة والأشجار ويأتون لتحيته وتركع الحيوانات عند قدميه ولكن في نهاية المشهد يتم تقطيع الممثل إلى قطع صغيرة ويتم افتراسه من قبل دب وحشي.
في نهاية العهد الروماني لم يعد هناك تمييز بين هذين النوعين وانما يقدم المايم والبانتومايم كفن منفصل دون مصاحبة الجوقة لهم، ومن هنا اصبح يشار الى هذه الفنون بأنها فن الاداء الصامت مع احتفاظهما بخصوصية كل منهما. ويبقيان حتىيومنا هذايعتبران فن الأداء الصامت باستثناء بريطانيا التي مازال فيها المايم فقط هو فن التمثيل الصامت اما البانتومايم فهو مسرحيات  ناطقة مأخوذة من الأساطير والحكايات الخرافية في "ألف ليلة وليلة"مثل "علي بابا و"الأربعين حرامي" أوغيرها مثل"سندريلا" أو "الأميرة النائمة" الخ وهي ما زالت تقدم منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن في أعياد الميلاد وغيرها من المناسبات.
مما تقدم ذكره نلاحظ ان هذا النوع من الفن هو فن ترفيهي لم يكسب الاحترام في تلك الحقبة ، ولكن الحال قد تغير منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث أصبح هذا الفن يدرس في الجامعات والمعاهد وله قواعده واصوله ومدارسه المتنوعة وجمهور يتوق لرؤية مسرحياته.
 المايم والبانتومايم منذ العصور الوسطى ولغاية الان :
تناول المبحث السابق المايم والبانتومايم عند الاغريق والرومان ونستكمل الحديث لنلقي الضوء على كيفة تطور هذا الفن منذ العصور الوسطى ولغاية الان .
من بداية انتشار المسيحية التي تزامنت مع مراحل من الامبراطورية الرومانية وحتى غزو القبائل الجرمانية سنة 476 م، كان ممثلو المايم والبانتومايم علىدرجة عالية في السخرية من رجال الدين المسيحي والمسيحية التي كانت تنتشرفي البدايات سرا ولم تكن قادرة على التصدي لهم . بقي الوضع كذلك حتى بدأت المسيحية تتمتع بالسلطة والقوة، فاخذت في محاربة الممثلين وخاصة ممثلي المايم والبانتومايم وقامت بتحريم التمثيل والزواج منهم أوتسميتهم بأسماء مسيحية وتعميدهم حتى تفرقوا ولم يبق منهم الا القليل الذين عملوا في القرى والأرياف وفي قصور بعض الاغنياء . في تلك الفترة استمرت الالوان المتعددة لملابس ممثلي المايم الرومان كعلامات مميزة للشعراء الرحل، واحتفظت الملابس بسماتها والوانها الرومانية كما تم الاحتفاظ باسلوب الرومان في العروض وان كان على مستوى اقل.
لقد حصل شيء فريد في القرن العاشر الميلادي، فالكنيسة التي كانت تعارض"مفهوم تقليد الحياة" بدأت باستخدام بعض سمات المسرح في عملية مسرحة بعض القصص من الإنجيل لعامة الناس الذين لا يعرفون القراءة :في البداية كانت هذه المسرحيات قصيرة وتعرض داخل الكنيسة، مثال على ذلك مسرحية عن آدم وحواء،ومع أن هذه المسرحية كانت تشتمل على بعض الكلام المنطوق والذي كان يؤدى في الكواليس من احد رجال الدين فإن الفعل والحركة كانا يؤديان باسلوب البانتومايم، وقد خصص ملقن ليقوم بتنظيم الايقاع الزمني بين حركات البانتومايم والكلام المنطوق ، فكانت مفاتيح الحركة والاداء الصوتي في يد الملقن .
ظهر بعد ذلك ما عرف بمسرحيات الاسرار والمعجزات والمسرحيات الاخلاقية حيث إستعان الممثلون غير المحترفين بممثلي المايم والبانتومايم الذين كانوا يتلقون اجورا مقابل اشتراكهم في هذه المسرحيات . ولكن سرعان ما تخلت الكنيسة عن مفهوم المسرحة وتحولت العروض الى خارجها حيث اصبحت النقابات والبلديات هي المسؤولة عن العروض المسرحية.
يجدر الذكر هنا بان هذه المسرحيات والتي امتدت من القرن العاشر الميلادي الى القرن الخامس عشر الميلادي وعلى الرغم من انها كانت خليطا من عقدة رفيعة وقالب كوميدي هابط، الا انها ساعدت على إحياء البانتومايم كوسيلة لرواية قصة ونقل افكار اثناء الترفيه عن الجمهور.
مع مرور الوقت  تحول ممثلو المايم والبانتومايم إلى لون آخرفي عصر النهضة :يقول د. احمد زكي في كتابه (اتجاهات المسرح المعاصر - فنون العرض"الجزء الأول") بأنه عند سقوط القسطنطينية سنة 1564 م على يد الأتراك في القرن الخامس عشر الميلادي، هرب ممثلو المايم البيزنطيون من المدينة الى اوروبا، وعليه فقد وصل  إلى ايطاليا مزيج من المسرح الديني والبانتومايم البيزنطي وجمع غفير من المغنين الرحل الذين ابتدعوا شكلا جديدا هو "الكوميديا دي لارتي" أي الكوميديا المرتجلة وهي بإيجاز نوع مسرحي يعتمد على الممثل وارتجاله لدوره حيث يتمتع هذا الممثل بقدرات عالية من الحيل والبهلوانيات والاكروبات والبانتومايم وسرعة البديهة واللياقة الجسدية ،ولها  شخصيات ثابتة مثل: "هارلكوين" و"بنطلون" و"بدرلينو" و"الكابتن" وهدفها فقط الاضحاك، وتعتمد قصصها على قصص الحب والخيانة الزوجية.
لقد عاد فن البانتومايم ليأخذ مكانه في هذا النوع من المسرحيات والتي استمرت ما يقارب مائتي عام وأصبحت هذه العروض تقدم في جميع انحاء اوروبا، ولكن المنافسة بين هذا النوع من الفن وفنون مسرحية اخرى مثل الكوميديا الفرنسية وفن الباليه كانت قد اشتدت إلى درجة أن القائمين على هذه الفنون قاموا بالتدخل مع السلطات الحاكمة واقناعهم بأن تقدم فرق الكوميديا دي لارتي مسرحياتها بلا حوار، وبالفعل نجحت كل من فرق الكوميديا الفرنسية وفن الباليه من استصدار قانون يمنع هذه الفرق من استخدام الحوار في مسرحياتها. مثال على ذلك فرقة الممثلين الايطاليين الذين طردهم ملك فرنسا لويس الرابع عشر عام 1697 في باريس وتم نفيهم إلى الضفة الأخرى من نهر "السين" والذين حصلوا فيما بعد على تصريح للتمثيل شريطة ان لايتكلم احد منهم إلى أن تم رفع الحظر عنهم في عام 1716 موعادوا إلى باريس مرة أخرى  وقوبلوا بالترحيب.
لقد تعرضت الكثير من مسارح الاسواق لهذه الضغوط ولعل اغرب قيد فرض على الممثلين كان إجبارهم على تأدية ادوارهم خلف ستارة من الشاش الرقيق . ويروى عن الممثل "بلانشيه فالكور" انه عندما سمع أن الجماهير قد اقتحمت الباستيل في يوم 14/7/1789 اندفع بدوره ممزقا الستارة - الشاش  وصاح: تحيا الحرية.
تم السماح بعد الثورة في فرنسا لاقامة المسارح مما ادى الى اضافة الحوار والغناء على عروض البانتومايم، الامر الذي ادى الى نشوء  فن هجين سمي الميلودراما.
في القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1807 عاد نابليون الى فرض القيود على المسارح فبدأ نجم "جان جاسبار دبرو" في التألق في مسرح البهلوان حيث قدم شخصية شهيرة وهي"بابتست" وهي شخصية مستمدة من شخصية بيرو في الكوميديا دي لارتي وهو شخص نحيل، شاحب الوجه، رجل لكل المواقف، ويتورط في اوضاع خيالية لا معقولة. كان "ديبرو"هو أول من استخدم القناع الابيض (الماكياج) بدل نصف القناع المستخدم في الكوميديا دي لارتي في عام 1800م، ومن الجدير هنا ان انوه بأن استخدام الماكياج الابيض قد تم توظيفه لغايتين: الأولى أنه يعمل على تضخيم تعابير الوجه وايصالها الى اكبر عدد من الجمهور، والثانية ان هذا الماكياج كقناع يوفر الفرصة لممثل البانتومايم أن يقدم شخصيات مختلفة .  لقد استمرت الأسرة المسرحية التي أنشأها "ديبرو" حتى عشرينيات القرن العشرين مع ان القيود المفروضة على الكلام كانت قد رفعت في حياته . وبين المنع وفك القيد وجد هذا النوع من الفن مساره، وأصبح له منظروه وقائمون عليه الى يومنا هذا.
في بداية القرن العشرين لم يعد هذا النوع من الفن مرغوبا به، وتم استبداله بفن"الفودفيل" الذي استقطب عددا اكبرمن الجمهور. ولكنتجدر الإشارة هنا إلى أن السينما التي بدأت عام 1896م واستمرت في تقديم الأفلام الصامتة حتى عام 1930 قد اعتمدت في تلك المرحلة الصامتة على ممثلي المايم لقدرتهم على توصيل المعلومات من خلال الجسد والاشارة والايماءة ومنهم كما نعرف الممثل الشهير "شارلي تشابلن"الذي أعاد تجسيد شخصية"بيرو"من مسرحيات "جان ديبرو" المستقاة من "الكوميديا دي لارتي" حيث أطلق عليها تشابلن اسم"الجوال الصغير" وهوشخص متواضع، مفلس دائما ، ولكنه متفائل ويقع باستمرا في مشاكل ولكنه يحاول أن يحصل على أفضل ما يمكن من كل ما يقع فيه . كانت أفلام "تشابلن"ناجحة جدا في حينها وما زالت تستقطب الجمهور حتى يومنا هذا. 
كان نادرا ما يعرض المايم في المسارح حتى1920م، إلا انه كان يدرس في بعض المدارس المسرحية وأهمها في حينه مدرسة الفرنسي "جاك كوبو". تم تلخيص أهم ما جاء به كوبو في كتاب"فن المايم والبانتومايم"تأليف "توماس ليبهارت"ترجمة بيومي قنديل  ويعرفنا فيه بأن كوبو قد ولدعام 1879م ودرس في جامعة السوربون، وبقي يعمل ناقدا مسرحيا حتى سن الثالثة والثلاثين حيث بدأ "كوبو" في حينها يثور على ضحالة المسرحيات التي كانت تقدم آنذاك وكان يبحث عن مسرح راق قادر على إنتشال الجمهور من التردي الثقافي والأخلاقي، لقد انصب اهتمامه على كيفية انقاذ المسرح حتى ترسخت لديه القناعة بأن انقاذ وتجديد المسرح لن يتأتيا الا من خارجه. كان أكثر ما يسيء الى "كوبو"من مشاهدة المسرحيات الميلودرامية هو أن الممثلين يعبرون عن انفسهم من خلال الصوت وتعبيرالوجه بينما تخلد أجسادهم إلى السكون.
إعتمد "كوبو"منهجا يدعو الى التجديد عوضا عن الثورة وكان الامر عنده العودة الى امجاد اليونان و"الكوميديا دي لارتي" والمسرح "الاليزابيثي" وكان يرى انه من الضروري العودة إلى الرحم الذي خلق وتفاعل فيه المسرح ، فكان أول ما فعله بالنسبة للتجديد هو اعتماد فضاء خال مفتوح غير مسقوف لتقديم العرض وصاغ معادلة في مجال النشاط الانساني (الاقل هو الاكثر) حيث رأى ان تقليص المسرح الى ابسط عناصره قد ينقيه ويقويه . وهو الذي أسس أول دار لعروض المسرح من خلال استلهام تقاليد الماضي فقد انشأ "كوبو"عام 1913م مسرحا سمي "الكولمبي العجوز" وكانت ميزة هذا المسرح ان العقول التي تقف وراءه ليست مسرحية.
كان "كوبو"يختار ممثليه بعناية فائقة وأهمهم "دلانه" و"جوفيه" وقدم معهم عروضا لاقت رواجا في موسم 1913-1914 ولكن بسبب انخراط معظم ممثليه في الجندية إبان الحرب العالمية الاولى تم توقف نشاط المسرح  وقام "كوبو" بانتهاز الفرصة لزيارة "جوردون كريج" و"جاك داكروز" و"أدولف أبيا" الذين كانوا يعتبرون من كبار الحالمين بعوالم جديدة. كانت نتيجة هذه الزيارات اتفاقهم جميعا على رغبتهم في ادخال تجديد شامل على المسرح على الرغم من ان وجهات النظر لم تكن متطابقة في جميع النواحي. استفاد "كوبو"من "كريج" في موضوع الاقنعة وخشبة المسرح العارية ومن "ابيا" في موضوع الاضاءة ومن "داكروز" في موضوع التدريب الجسدي للممثل.
بعد الحرب عاود نشاطه مع طلابه وتم التركيز في المعهد من خلال التدريبات على أهميةالارتجال الذي لم يكن مسموعا به لدى احد في ذلك الوقت. من أهم غايات الارتجال إطلاق الطاقات الإبداعية لدى الممثل حتى يتجاوز التحكم الديكتاتوري المفروض على الممثلمن قبل المخرجين والمؤلفين، وذلك ليكتشف المرونة العقلية والجسدية التي تمتع بها اسلافه من ممثلي "الكوميديا دي لارتي". اراد "كوبو" أن يساهم الممثلون بصورة متساوية مع المؤلف والمخرج: إذ ان الممثل هو الذي يقوم بالدور في نهاية الامر وهو المناط به اكتشاف ابعاد الدور بصورة مباشرة بينما يجلس كل من المؤلف والمخرج عادة على مقعديهما.
هذا لايعني أن "كوبو" قد تجاهل دور الكلام ولكنه كان واعيا ومعنيا بضرورة أن تأتي الكلمة المنطوقة واللفظ كذروة للفكرة التي ملأت كيان الممثل وكتتويج لحالته الداخلية وتعبيره الجسدي الذي يترجمها.
بالإضافة إلى التدريبات كان على الممثل ان ياخذ محاضرات في الباليه الكلاسيكي وعن الجهاز الصوتي والإلقاء والخطابة والجوقة الكلاسيكية والأزياء والفلسفة والأدب والشعر والمايم الجسدي وفن "النو" الياباني والغناء والنحت وتاريخ الموسيقى.
المايم الجسدي عند "كوبو" :
أطلق عليه طلاب كوبو "القناع" نظرا لانهم كانوا يرتدون اقنعة خالية من التعبير - في البداية لم يكن القناع يزيد عن "ايشارب" موضوع على وجوههم - اما الجسد فكان عاريا الى الحد الذي يسمح به الحياء السائد آنذاك. إن تغطية الوجه كانت تعني ان باقي الجسد قد أصبح عليه أن يأخذ على عاتقه الدور الذي كان منوطا بالوجه وقد ادت هذه الفرضية الى ولادة المايم الحديث.
كان الطلاب يرتجلون احداثا بسيطة مثل حركة بعض الماكينات او شخص يطرد ذبابة او سيدة تخنق ضاربة الرمل. كانت طريقة التمثيل اشبه بالحركة البطيئة للفيلم فقد كان بطء التمثيل هو البطء في الاتيان باشارة واحدة تؤلف في حد ذاتها عشرات الاشارات الاخرى في تركيبة مضفورة.
قدم طلاب المعهد في نهاية الفصل عرضا امام الجمهور وهناك كانت البداية الحقيقية للمايم الحديث:كان العرض يتألف من مايم واصوات وقد مضى العرض دون أية كلمة أو ماكياج أو أزياء أو مؤثر صوتي ودون لوازم التمثيل المعتادة. كان العرض مشكلا من حركات بطيئة وجمود حركي طويل شمل حركات متفجرة يعقبها جمود وتفجر حركي وكانت هذه السمات ذاتها ملازمة للاداء التمثيلي الذي كان يقوم به "كوبو".
لقد شعر "كوبو" أن دراسة الأقنعة لا غنى عنها في إخراج الصراعات الداخلية الملازمة للدراما، واهتدى الى ان درجة معينة من الحياد الذهني والجسدي تعتبر افضل نقطة يستطيع ان ينطلق منها الفرد الى هذا الهدف. كان إستخدام الاقنعة الذي إعتمده "كوبو" كتقنية أسلوبا جديدا لم يعرفه احد من قبله، كان مؤكدا لدى "كوبو" أن استخدام الأقنعة تفصل الممثل عن العالم الخارجي فيبذل الممثل صبرا في سبيل التركيز للوصول الى حالة الفناء (الحالة التي تلغي ذاته) والتي يغدو الممثل من لحظتها قادرا على العودة مرة اخرى الى الحياة كي يتصرف بصورة درامية جديدة.
يتلخص جوهر التعاليم التي ناضل "كوبو"من اجلها بالتالي: "يجب على الممثل ان يعرف كيف ينصت وكيف يجيب، وكيف يظل جامدا دون حراك وكيف يبدأ ايماءة ما وكيف يستمر معها ومن ثم يعود الى حالة الجمود الحركي والصمت بكل ما تنطوي عليه كل هذه الافعال من ظلال ومن انصاف درجات اللون".
في نهاية الحديث عن "كوبو"لا بد من التنويه بأنهذا الرجل كان يبحث عن مسرح يعتبرالفن في ارقى اشكاله تعبيرا عن دين ما. لقد رأى كوبو المسرح في عصره قد شارف على السقوط فاستشعر ضرورة انه يجب ان ينهض ليعيد المسرح إلى وضعه المقدس فاخذ يهدر مثل الرعد ضد التراخي والتهاون الشخصي والمهني.
في عام 1923م التحق في معهد "كوبو"طالب جديد كان له تأثير كبير على تطوير فن المايم وهو الفرنسي" ايتيان ديكرو" حيث قام بتطوير فن جديد اسماه"المايم الجسدي" وقد طور ديكرو نظريات كثيرة وتقنيات لهذا الفن ومن اهمها القدرة على عزل اجزاء الجسد، اي ان الممثل يستطيع على سبيل المثال ان يعزل الرقبة او الصدر او الورك ويتحكم بهما بشكل منفصل عن باقي الجسد ، وقد طور عددا كبيرا من خطوات وحركات ديناميكية الإيقاع ومصممة هندسيا حيث كان لهذه الحركات المعزولة الاثر الكبير على الحركة التشكيلية التكعيبية، وكان لدى " ديكرو" تلميذان ذاع صيتهما ونالا حظا وافرا من الشهرة وهما على التوالى "جان لوي بيرو"و"مارسيل مارسو". "بيرو"عمل مع "ديكرو"لمدة سنتين في تطوير هذا الفن وقد ظهر في فيلم " الفردوس المفقود" عام 1946م حيث قدم فيه شخصية "ديبرو"الممثل الشهير للبانتومايم في القرن التاسع عشر الذي أتينا على ذكره سابقا ولكن "بيرو"بعد هذا الفيلم بفترة قصيرة توقف عن تمثيل المايم واصبح من اهم ممثلي المسرح والسينما العالمية. 
أما "مارسيل مارسو" على الرغم من انه كان قد تتلمذ على يد "داكرو" الذي كان بدوره تلميذ "جاك كوبو" الذي تعرضنا لنظريته في تدريب الممثل بتغطية وجهه بالقناع كي يرتقي بجسده الى آفاق اعرض في مجال القدرة على التعبير والتي تعتبر اساس ولادة المايم الحديث، إلا أنه "مارسيل مارسو" اعتمد مذهب "جان جاسبار ديبرو" من القرن التاسع عشر وتابعيه الذين إعتمدوا التركيز الاساسي على الوجه واليدين حيث يتم بذل جهد مضاعف للتعويض عن غياب اللغة المنطوقة التي كان قد جرى حظرها.
لا نستطيع تفسير فن "مارسو"تلميذ "داكرو" ابن القرن العشرين الذي فضل أن يحتذي بمؤدي البانتومايم في القرن التاسع عشرإلا بعد أن نتعرف على هذا الفنان ببعض التفصيل.
ولد "مارسو"في "ستراسبورج" وبعدها انتقلت اسرته الى "ليل" في فرنسا ولاحقا الى "ليموج" لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية. شغل في باريس وظيفة مدرس مسرح في مدرسة للاطفال وكان يعمل كمدرس أيضا "أيليان جويون" الذي كان في نفس الوقت طالبا في معهد "إيتيان داكرو" احد تلامذة "جاك كوبو" واستاذ مارسو لاحقا.لم يمض وقت طويل حتى التحق مارسو بالمعهد والتقى "داكرو" و"جان لوي بيرو" ودرس مارسو على يد "داكرو" وفق قاعدة مدرس واحد لكل تلميذ.

التحق مارسو عام 1946 بفرقة "بيرو" واشترك بعد تقديم "داكرو" له ليؤدي دور المهرج في مسرحية "المعمداني" ذلك البانتومايم الذي ابدعه "بيرو" عقب النجاح الذي حازه فيلم "اطفال الفردوس". في عام 1947 ظهرت الى النور شخصية "بيب" التي اخترعها مارسو او اشتقها من رواية  للكاتب تشارلز دكنز (التوقعات الكبيرة) وقام بادائها على احدى ضفاف نهر "السين" في باريس بينما كان لا يزال يؤدي على الضفة الاخرى دور المهرج في مسرحية "المعمداني". لاحقا انتهى عمل "مارسو"مع "داكرو" بعد ان تغلب على "مارسو"الميل للأداء على الدراسة.
قام "مارسو"بتشكيل فرقته الخاصة وكان يؤدي اداءا منفردا اضافة الى العمل مع فرقته والذي كتب واخرج لها اكثر من خمسة وعشرين عملا ميمودراميا. أولى مسرحياته كانت "المحكمة" حيث لعبت فيها المحاكاة الصوتية للطبيعة والجرس واللفظ غير الناطق دورا يوازي في اهميته دور حركات الجسد وتعبيرات الوجه.
في عام 1955 وبعد عدة سنوات من التجوال الناجح في اوروبا، عرض "مارسو"لمدة أسبوعين في مسرح "فونكس" في نيويورك وقد إمتد إرتباطه مع هذا المسرح بعد ان حقق نجاحا باهرا. عرض ايضا في مسرح المدينة في "برودواي" لمدة ستة شهور وهو رقم قياسي لفنان. بدأ يمثل خلال هذه الفترة للتلفزيون مما فتح له ابواب الشهرة على نطاق واسع وبعد العروض في "نيويورك" قام بجولة في الولايات المتحدة وكندا. لقد واكب هذا النجاح الجماهيري نجاحا على المستوى النقدي ولم يخل الامر من تعرضه للهجوم من قبل مجموعة صغيرة من النقاد الذين قالوا ان مسرحيات البانتومايم التي يقدمها "مارسو"وان كانت تصويرات لملاحظات ذكية يستطيع المرء ان يستمتع بها لبساطتها ورقتها إلا انها تفتقر الى المعنى الخلاق.نقل مقلدوه وهم جيش جرار توليفته الناجحة كربونيا دون ان يفطنوا الى ضرورة الوقوف مثله على اسس ودراسة المايم الجسدي التي مكنته مع قدراته الفطرية على تحقيق انجازاته.
كيف نستطيع ان نقدم تفسيرا لفن "مارسو"؟ 

كان "مارسو"من ابرز ممثلي المايم في عصره ومع ذلك لم يدع مطلقا أن فنه انبثق من عناصر الحداثة التي اسسها "كوبو" وتلميذه "داكرو" مع أننا نعلم أن "مارسو"قد تتلمذ على يد "داكرو". كان يدهن وجهه بالابيض وكان وضع جذعه مائلا نوعا ما الى الخلف وكأنه في وضع الجالس، كان ايضا يمد وجهه ويديه بشكل متناظر نحو الجمهور فقد كان يركز على الاطراف اكثر من تركيزه على الجسد.
نلاحظ مما سبق ان هذه الاسس لا تمت بصلة الى البانتومايم الحديث، ولكنها تستند تماما الى التقاليد الغربية التي تم توظيفها في "الكوميديا دي لارتي" والفيلم الامريكي الصامت، لاننا نعرف ان المايم الحديث قد تأثر وتشبع بمؤثرات شرقية وإفريقية وان معظم اعمال الحداثة كانت قد انطوت على إزدراء البرجوازية وتحدي فرضياتها من خلال اللجوء الى الصور والبيانات الفوضوية - الاشتراكية - السيريالية، ولكن "مارسو"قد واظب على التشبت باحضان الصفوة الثقافية العالمية فعوضا من ان تأتي اعماله لتتحدى الوضع الراهن على الاصعدة السياسية والاجتماعية، جاءت اعماله تصديقا واقرارا بهذا الوضع.
هنا وعند هذا المنحى بالتحديد يختلف "مارسو" ايضا مع "ديبرو" من القرن التاسع عشر الذي من المفروض انه قد تتبع خطاه. "ديبرو" استطاع دون اللجوء للكلام ان يعلق على نقاط الضعف لدى السلطات الحاكمة وعلى المظالم التي عانى منها في حين ان مارسو اختار الصمت واستخدمه في تصوير قصص خلابة حول قصص حكومية معاصرة واناس يمشون بسلام ويبيعون البالونات.
في الختام نلاحظ أن البانتومايم موجود منذ بداية الخليقة من خلال تواصل البشر بالإشارات والطقوس، ولكنه اكتسب معنى وشكلا أخر عند ابتكار الدراما على يد الاغريقيين، ويعزى تطوره للرومان حين اخذ المفهوم يتبلور بمعنى درامي واضح، وعلى الرغم من ان الكنيسة حاولت القضاء عليه الا انها عادت ولجأت اليه في محاولة لتوصيل معلومات عن الكتاب المقدس لرعاياها الأميين.
 عاد الايمائيون في القرون الوسطى ليطهروه من خلال مسرحيات الاسرار والمعجزات والمسرحيات الأخلاقية، وفي عصر النهضة كان تطوير فن البانتومايم كبيرا من خلال مسرحيات "الكوميديا دي لارتي". غاب هذا الفن عن عصر "شكسبير" في القرن السابع عشر ليعود وينتشر من جديد في القرن الثامن عشر والى بداية القرن العشرين حين أعيد البحث في البانتومايم فظهرت المدارس التي تدرسه كفن راق بعد أن كان يحمل صفة الابتذال . كانت فرنسا هي الرائدة في ذلك من خلال روادها "كوبو"و"داكرو"و"مارسو"وغيرهم.هو أحيانا فن التمثيل الصامت واحيانا اخرى هو فن يصاحبه الكلام والموسيقى والمؤثرات باستثناء انجلترا التي ما زال المايم فيها هو فن التمثيل الصامت والبانتومايم هو فن التمثيل الناطق.


 الموضوع منقول للإفادة




الكوميديا دي لارتي



  الكوميديا دي لا رتي

Comedia Del Arte
 
الكوميديا دي لارتي او كما تم ترجمتها الى اللغة العربية تحت اسماء مختلفة مثل: كوميديا الفن، كوميديا الصنعة، الكوميديا الشعبية، كوميديا الارتجال او الكوميديا الايطالية، وكل هذه الترجمات لها جذور في هذا الفن حيث خرجت الاسماء لتعبر عن خاصية معينة يتمتع بها هذا الفن الذي سنتعرف على اصوله وميزاته في هذا المبحث.
 
من الشائع ان الكوميديا دي لارتي قد بدأت في ايطاليا سنة 1550م اي في منتصف القرن السادس عشر وانتشرت لفترة تقارب المائتي عام في ايطاليا امتدادا الى شمال اوروبا، حيث تمتعت بشهرة متفاوتة بين الصفوف الشعبية وانتهاءا لاعتماد عروضها وتألقها في البلاطات الملكية،ولكن المتتبع لهذا الفن يجد ان جذوره لم تبدأ في القرن السادس عشر بل كانت اعادة لفن  ظهر في الحقبة الرومانية اي ما بين القرنين الثالث الى الاول قبل الميلاد وهو ما كان يسمى التمثيلية " الاتيلانية". التمثيلية الاتيلانية هي عبارة عن تمثيلية درامية كانت تقدم باللغة الاوسكية الخاصة بمجتمع اتيلا وتم جلبها الى روما بجميع خصائصها، وهي عبارة عن مجموعة من اللوحات تتصل فيما بينها بخط رئيسي مشترك دون صياغة تحقيق كلي متماسك للعناصر المسرحية. في هذا الفن يرتكز التأثير الضاحك والمضحك  بصورة خاصة على اداء الممثل لدوره على حركته الايمائية وعلى عناصر مرتجلة، فاللغة خشنة ملونة، فعالة بفعل طابعها الشعبي. كان الممثلون يستخدمون الاقنعة وهي اقنعة شخصيات ثابتة نمطية ومشهورة في حينها مثل شخصية ماكوس(الشخص الغبي الابله) وبابوس(العجوز المخبول) ودوسينوس (الاحدب) الخ. كان سكان القرى والريف يقومون بتمثيل هذه الشخصيات والقصص، ولكن لم يكتب لهذه التمثيليات الاستمرار بسبب المطالب السياسية التي كانت تطرح من خلال تلك التمثيليات حيث تمكن القائد الروماني " سيلا" واثر حملة دامية من القضاء على القائمين عليها والحد من انتشارهم الى ان تحول ممثلوها للعمل في فواصل الكوميديات والتراجديات المنتظمة. لم تكتف الانظمة المتعاقبة بذلك بل بقيت مطاردة هؤلاء الممثلين طوال العصور المظلمة ويعتقد بأنهم قد لجأوا الى بيزنطة وعملوا في المسرح هناك. قبيل عصر النهضة قاموا بالعودة الى موطنهم ايطاليا ليؤسسوا فنا جديدا قديما تحت اسم "الكوميديا دي لارتي". كان هذا النوع استمرارا للقصة الاتيلانية مع فارق اساسي وهو ان الكوميديا دي لارتي اكتفت بمواضيع من الحياة الاجتماعية الحياتية وابتعدت عن النقد السياسي اللاذع الذي كان مطروحا في التمثيليات الاتيلانية. بدأ العاملون في "الكوميديا دي لارتي" بتظيم انفسهم في فرق وجمعيات محترفة ويقومون بتقديم عروضهم في الساحات العامة والمصطبات المفتوحة. لقد استمرت على المستوى الشعبي زمنا معينا قبل ان تنتقل الى البلاط حيث يذكر لنا " تشيلدن تشيني" في كتابه (تاريخ المسرح في ثلاثة الاف سنة) الجزء الاول" بأن الفرق المسرحية قبلت في البلاط عام 1575م، والسبب في ذلك بأن البلاطات كانت قد تعبت من تقليد المسرحيات القديمة والفياضانات الدرامية الهزيلة لكتاب مسرحية " القناع" ومنذ ذلك الوقت ولمدة قرن ونصف اصبحت الفرق الايطالية للكوميديين المحترفين هي المفضلة لدى جميع البلاطات".

انكارتا انسيكلوبيديا(Encarta Encyclopedia) تقوم بتعريف هذا الفن بأنه "فن مسرحي يعتمد على عدم وجود نص درامي تقليدي،فقط يكون الاعتماد على هيكل سيناريو وجد مسبقا ويعلق كاتب السيناريو الاوراق في الاجنحة ليعرف كل ممثل المدخل والمخرج له بحيث يسهل لكل ممثل الوصول اليها، وانعدد الممثلين في كل مسرحية يتراوح من 6-12 حيث يقومون بابتكار الباقي من تلقاء انفسهم اي يرتجلون حواراتهم الكوميدية بحيث تشمل الالعاب البهلوانية والغناء والرقص، وكما يعتمدون على تشخيص شخصيات ثابتة تمطية".لابد من التوضيح بأن الممثل يقوم بتمثيل شخصية واحدة ودورا واحدا طوال حياته الفنية مثل شخصية "بانتلون"او "كابيتانو"او "اليكنو"او "العاشق"ومع ان هذه هي القاعدة الا ان بعض الممثلين الكبار والمتميزين في حينه كسروا هذه القاعدة وقاموا بتمثيل اكثر من شخصية او اوجدوا للشخصية الواحدة عشرات الاوجه المختلفة، مثال على ذلك "فرانسيسكو اندريني"قائد فرقة "غيلوزي" عام 1575م، حيث كان قد مثل شخصية "الكابتن"الاسباني وخلق لها عشرات الاوجه المختلفة، كما مثل شخصية "العاشق".من الملفت للنظر أن جميع الممثلين يرتدون الاقنعة (نصف قناع) باستثناء شخصية العاشق فهي دائما تمثل بوجه الممثل الطبيعي دون غطاء. لا بد من الاشارة بأن هذه الاقنعة تعبر عن شخصيات نمطية ومقسمة الى شخصيات جادة واخرى هزلية وهذا يذكرنا بالمسرح الاغريقي القديم مع الاختلاف بأن القناع في المسرح الاغريقي يغطي كامل الوجه. اما عن الشخصيات فعند مشاهدتها يتعرف المشاهد على سماتها المنمطة مباشرة واذكر امثلة لتوضيح سمات هذه الشخصيات.
بنتالون: هو الاب او الزوج المخدوع وهو عجوز من السهل خداعه، يكفي ان يكون زوجا لفتاة صغيرة، كما نجده ايضا التاجر الذكي الساذج الثرثار، انه عاشق بطريقة متهافتة ودائما يتم خداعه بقيام ابنه او خادمه بارتداء ثياب محبوبته، انه نموذج الاحمق سهل الخداع، واطلق عليه اسم "بنتالون"لانه دائما يرتدي بنطالا طويلا.
الخدم او الزني (Zanni):المهرج وهما عادة اثنان ويطلق عليهما اسم زني انهما اعادة جديدة لدور يمثيليهما
الكوميديا دي لا رتي

Comedia Del Arte
الكوميديا دي لارتي او كما تم ترجمتها الى اللغة العربية تحت اسماء مختلفة مثل: كوميديا الفن، كوميديا الصنعة، الكوميديا الشعبية، كوميديا الارتجال او الكوميديا الايطالية، وكل هذه الترجمات لها جذور في هذا الفن حيث خرجت الاسماء لتعبر عن خاصية معينة يتمتع بها هذا الفن الذي سنتعرف على اصوله وميزاته في هذا المبحث.
من الشائع ان الكوميديا دي لارتي قد بدأت في ايطاليا سنة 1550م اي في منتصف القرن السادس عشر وانتشرت لفترة تقارب المائتي عام في ايطاليا امتدادا الى شمال اوروبا، حيث تمتعت بشهرة متفاوتة بين الصفوف الشعبية وانتهاءا لاعتماد عروضها وتألقها في البلاطات الملكية،ولكن المتتبع لهذا الفن يجد ان جذوره لم تبدأ في القرن السادس عشر بل كانت اعادة لفن  ظهر في الحقبة الرومانية اي ما بين القرنين الثالث الى الاول قبل الميلاد وهو ما كان يسمى التمثيلية " الاتيلانية". التمثيلية الاتيلانية هي عبارة عن تمثيلية درامية كانت تقدم باللغة الاوسكية الخاصة بمجتمع اتيلا وتم جلبها الى روما بجميع خصائصها، وهي عبارة عن مجموعة من اللوحات تتصل فيما بينها بخط رئيسي مشترك دون صياغة تحقيق كلي متماسك للعناصر المسرحية. في هذا الفن يرتكز التأثير الضاحك والمضحك  بصورة خاصة على اداء الممثل لدوره على حركته الايمائية وعلى عناصر مرتجلة، فاللغة خشنة ملونة، فعالة بفعل طابعها الشعبي. كان الممثلون يستخدمون الاقنعة وهي اقنعة شخصيات ثابتة نمطية ومشهورة في حينها مثل شخصية ماكوس(الشخص الغبي الابله) وبابوس(العجوز المخبول) ودوسينوس (الاحدب) الخ. كان سكان القرى والريف يقومون بتمثيل هذه الشخصيات والقصص، ولكن لم يكتب لهذه التمثيليات الاستمرار بسبب المطالب السياسية التي كانت تطرح من خلال تلك التمثيليات حيث تمكن القائد الروماني " سيلا" واثر حملة دامية من القضاء على القائمين عليها والحد من انتشارهم الى ان تحول ممثلوها للعمل في فواصل الكوميديات والتراجديات المنتظمة. لم تكتف الانظمة المتعاقبة بذلك بل بقيت مطاردة هؤلاء الممثلين طوال العصور المظلمة ويعتقد بأنهم قد لجأوا الى بيزنطة وعملوا في المسرح هناك. قبيل عصر النهضة قاموا بالعودة الى موطنهم ايطاليا ليؤسسوا فنا جديدا قديما تحت اسم "الكوميديا دي لارتي". كان هذا النوع استمرارا للقصة الاتيلانية مع فارق اساسي وهو ان الكوميديا دي لارتي اكتفت بمواضيع من الحياة الاجتماعية الحياتية وابتعدت عن النقد السياسي اللاذع الذي كان مطروحا في التمثيليات الاتيلانية. بدأ العاملون في "الكوميديا دي لارتي" بتظيم انفسهم في فرق وجمعيات محترفة ويقومون بتقديم عروضهم في الساحات العامة والمصطبات المفتوحة. لقد استمرت على المستوى الشعبي زمنا معينا قبل ان تنتقل الى البلاط حيث يذكر لنا " تشيلدن تشيني" في كتابه (تاريخ المسرح في ثلاثة الاف سنة) الجزء الاول" بأن الفرق المسرحية قبلت في البلاط عام 1575م، والسبب في ذلك بأن البلاطات كانت قد تعبت من تقليد المسرحيات القديمة والفياضانات الدرامية الهزيلة لكتاب مسرحية " القناع" ومنذ ذلك الوقت ولمدة قرن ونصف اصبحت الفرق الايطالية للكوميديين المحترفين هي المفضلة لدى جميع البلاطات".
الرومانيين.
سانيون:عرف في عصر النهضة تحت اسماء مختلفة مثل: "ارليكنو"، "بريغلا"، "سكابينو"و "بوكشيني" ومواصفات الخادم "ارليكنو": خادم داهية ذكي لاحد الكهول الحمقى المتقدمين في السن، دائما يساعد الشبان في مخططاتهم كما ينجح في خداع "بنتالون" وملابسه طقم مخطط بمربعات. واما "بريغلا"فهو الخادم الثاني وهو من النوع الظالم اللئيم الشهواني فاقد الضمير.
ان الامثلة كثيرة الا انني سانهيها بالحديث عن شخصية "كاباتينو" وهو الجندي الذي يتفوه بمفاهيمالشجاعة ولكنها تزول بسرعة، وهويروي دائما قصصا عن بطولاته وجرأته المنقطعة النظير ولكنه يجبن عند اي فعل حقيقي، وتطورت هذه الشخصية سريعا لتصبح شخصية اللورد الاسباني المدعي.
وهكذا فان كل شخصية من شخصيات الكوميديا دي لارتي لها مواصفاتها وسماتها الثابتة فاذا ما عرفتها فلن تخفى عليكولن تختلففي اي عرض تشاهده الامن خلالجودة الممثل ومدى تسلحه بأدواته القائمة على امتلاكه لرزمة كبيرة من الامثال والتهكمات والتشخيصات والالغاز والحزازير والمحفوظات والحكايات الخيالية والاغاني والرقص والشقلبات،فكلما كان مخزون الممثل اوسع حصل على شهرة اكبر واستمر عمله لفترة اطول دون التهديد باستبداله مع ان هذا نادرا ماكان يحدث، فمن المعروف بأن ممثلي هذا النوع من الفن هم ممثلون محترفون ويمكن الاستدلال على ذلك من كلمةArte  التي تعني الصنعة كما يقول د. رشاد رشدي في كتابه (نظرية الدراما من ارسطو الى الان) وهذه الكلمةكانتقد استعملت في اسمهم لتمييزهم عن الممثلينالهواةالذينكانوا يعملون في مسرحيات ميكافيلي ومعاصريه في القرن الخامس عشر ميلادي والتي عرفت كوميدياهم باسم كوميديا الايروديتا(Erudite). باختصار "الكوميديا دي لارتي"  هيكوميديا الممثل المحترف.
انتقل في نهاية هذا البحث المصغر للحديث عن تأثيرات وانعكاسات هذا الفن على كبار كتاب المسرح والممثلين، فقد لوحظ في كتابات الكاتب المسرحي الانجليزي الكبير وليام شكسبير بأنه قد تأثر بشخصيات "الكوميديا دي لارتي"فعلى سبيل المثال وكما يقول د. رشاد رشدي في كتابه المذكور اعلاه بأن بأن موضوع"الاركادي انكانتا" وهي احدى الانماط الشائعة في الكوميديا دي لارتي قريبة الشبه من موضوع مسرحية "العاصفة"، كما ان شخصية "جريميو"في مسرحية "ترويض النمرة" ايضا لشكسبير هي ايضا قريبة الشبه من شخصية "بنتالون"الشخصية الشديدة البخل-احدى الشخصيات المعروفة في الكوميديا دي لارتي.  كما يعترفالفرنسي "موليير" كاتب الكوميديا الاجتماعية في القرن السابع عشر الميلادي بأن الكوميديا دي لارتي كانت مصدرا للوحي والالهام في مسرحياته ونذكر في هذا المجال مسرحيته الشهيرة "البخيل". اماعن تأثير"الكوميديا دي لارتي"في انجلترا فقد ظهر في القرن الثامن عشر من خلال مسرح البانتومايم(Pantomime) الذي انتجه "جون ويفر"في انجلترا عام 1702م في مسرح "دروري لين".
هنا اجد انه لا بد من التوضيح بأن فن البانتومايم الذيبدأ في القرن الثامن عشر وهو فن يعتمد على الكلام والرقص والايماءاتوهو يختلف عنفن المايم(Mime) الذي بدأ في القرن الخامس قبل الميلاد وهو فن التمثيل الصامت. ولا بد من الذكر بان هذا الفنقد اثر ايضا في الممثل السينمائي الشهير "شارلي شابلن"فعلى سبيل المثال العصى التي كان يستخدمهاوالتي كانت تلازمة هي اداة مستعارة من الادوات الملاصقة لبعض شخصيات "الكوميديا دي لارتي"وكان يطلق عليها حينها (Slapstick Routine).
 في الختام، فان الحديثهناعن هذا الفن لا يمكن تغطية جميع جوانبه في بحث محدودولكنيمكن اعتبار ما تقدم عبارة عناضاءة تعطي القارئفكرة عن هذا الفن، للاستزادة يمكن قراءة الكتب المذكورة اعلاه او مشاهدة احدى المسرحيات التي ما زالت تقدم حتى يومنا هذا. لكن لا بد من الاشارة الى ان هذه الاعمالوان كانت تحقق المتعة والترفيه الخفيف عن النفس فانها تفتقد الى اي قيمة في مضامينها باستثناء حرفية ممثليها وهي في واقعنا المعاصر تشبه الى حد كبيرالكثير منالكوميديا العربيةالرائجةوتحديدا العروض الكوميدية المصرية، حيث يتم خروج الممثل عن النص، اوما ندعوه بالارتجال.
من الملاحظ بأن هذه الاعمال قادرة على استقطاب العدد الاكبر من الجمهور مقارنة بالاعمال الادبية، وكأن الصراع بين المسرحيات الادبية والمسرحيات الشعبية دائم منذ نشأة المسرح الى الان، حيث تنتصر المسرحية الشعبية على الادبية في قدرتها على استقطاب الجماهير.وارىانهلا بد للباحثين في المسرح من دراسة هذه الظاهرةحتى يصلوا الى معادلة وسطية بين الجماهيري(الشعبي) والأدبيوالا بقي الحال لصالح متعة الترفيه السطحي على حساب متعة العقل والقلب معا.

الرمزية والمسرح الاصلاحي


 الحلقة الأولى
أحمد شرجي : 
 قبل الدخول في عالم ادولف ابيا وكوردن كريك، اللذان قادا ثورة شكلية في منظور الشكل المسرحي على مستوى الضوء والموسيقى والديكور ورسومات المناظر، بعد ان اعتاد المسرح على نقل الواقع فوتغرافيا الى خشبة المسرح، صور لاتستفز المخيلة، بل تساهم في خمولها ومحدوديتها. قبل الدخول بمعرفة تلك الثورة الشكلية، سنتعرف على الرمزية،الرمزية التي كانت المحفز الكبير لتلك التجارب، و التي احدثت ثورة عارمة على مستوى الادب اولا.
بعد تجارب آندريه إِنطوان ونزعته الواقعية في الإخراج،أراد الكثير من المخرجين الخروج من معطف الواقعية، أي البحث عن شكل مسرحي آخر بعيدا عن القواعد الثابتة التي نادى بها آندريه انطوان.
أرادوا إيجاد عوالم أشد إيهاما وأكثر جمالا من واقعية تتكرر وتُشاهد كل يوم من خلال روتين الحياة للإنسان العادي، لتعرض مجددا على الخشبة.
هذا ما انتبه إليه الرمزيون من خلال طروحاتهم القائلة بإن الطبيعية تقتل الإيهام وتقتل الصور التي يمكن أن تنتجها الذاكرة الجمالية، وهكذا خطى المسرح خطوات مهمة وجريئة في عدم محاباته للواقعية والانطلاق إلى عوالم الشعر الخلاقة، ظهر (آدولف ابيا، كوردن كريك وجان لوي بارو) وغيرهم من الذين اهتموا بالجانب البصري امثال (الالماني ماكس راينهارت والروسي فسفورد مايرخولد وبرخت والفرنسي جاك كوبو والالماني اورين بسكاتور ومن ثم تجارب ارتو وكروتوفسكي واوجينو باربا).
نشأت الرمزية في اواخر القرن التاسع عشر في فرنسا، قادها مثقفون لاينتمون الى عالم المسرح امثال(مالارميه، رييود،فولان وبودلير)، رفضوا ما جاء به رجال المذهب الطبيعي والواقعي، وذهبوا الى ابعد ما يطرحوه، وجدوا بان الحقيقة ليس بصورتها الصادقة، بل في عمق الاشياء التي تزخر بها الحقيقية، ولهذا (رفض الرمزيون محاكاة الطبيعة الملموسة لانها تُحجب العالم الروحي خاصة وانها تعتبر ان الجمال هو جمال الروح وليس الجمال المحسوس، وان إدراك الحقيقة لايكون عن طريق العقل وانما عن طريق الخيال القادر وحده على استنباط المعاني الرمزيه الكامنه في الظواهر الحسية.
ذهب الرمزيون بطروحاتهم الى ذلك العمق من اجل استفزاز المخيلة واقلاقها، اعلنوا عن رفضهم لكل الجهوزية التي تتناول الواقع باستنساخ وتاتي به الى المسرح،لان هذه ليست مهمة الادب والفنون، بل مهمته، هي مهمة اخرى، اثارة الاسئلة واستفزاز المخيلة والتحليق بالخيال، والابهار بهذا التحليق الذي يسعى لتطوير الذائقة والحس الفني.
عدم التعاطي مع المتفرج بعقلية سلبية ساذجة، من خلال طرح كل الاشياء امامه، وبالتالي يحوله الى عقل جامد، عقل غير مفكر ومفسر لما يطرح امامه، لهذا سعى الرمزيون لترميز طروحاتهم وقصائدهم، في بعض الاحيان كانت رموزهم وصورهم البيانية مليئة بالالغاز والصور السوداوية، بحيث وصلت الكثير منها الى حد التطرف في الرمز، ولقد اثار هذا التطرف والاغراق في الرمزية الكثير من اللغط من الرمزيين انفسهم وخاصة كتاب المسرح، رغم ان المسرحية والقصة اسهل بكثير للقارئ والمتلقي، لانه لايجد فيها ذلك الاسراف والاغراق في الرمزية والذي حول القصيدة او اللوحة الى مجموعة طلاسم تحتاج الى قواميس لترجمتها، خالفهم في ذلك الكثير من الكتاب امثال ابسن وميترلنك وهاويتمان وادمون روستان وسودرمان واخرين. منطلقين بذلك لرفضهم لكل ما هو طبيعي وواقعي ومهما كان شكل الادب الموضوعي، اجتماعيا، او اخلاقيا، كان هدف الرمزيين هو الترف الفكري واللذة الفكرية المجردة، تلك اللذة التي تاتي من خلال الاسئلة التي تقلق عين وذهن المتلقي، ان كانت لوحة او قصيدة، كان مبدئهم هو الفن من اجل الفن،و الصورة الجمالية من اجل الصورة الجمالية.
لكن على صعيد الاخراج والعرض المسرحي، ركز الرمزيون ايضا على الجوانب الروحية، العالم الروحي، حاولوا التنقيب لايجاد خصوصية للعرض المسرحي، ان كان على مستوى تصميم المنظر المسرحي، او الاضاءة ومساقطها، الغاء الاضاءة من مقدمة المسرح(دعا الرمزيون الى ابراز جمالية النص، ومن هذا المنطلق رفضوا كل مايمكن ان يشوش عملية التواصل الشعري التي تتم اساسا عبر الكلام.كذلك حاول الرمزيون من منظور كوني بحت، ان يبتعدوا عن كل ما يحدد الفضاء المسرحي كمكان جغرافي وتاريخي، لذلك كانت الخشبة لديهم غالبا منصة فارغة من الديكور وتلعب الاضاءة فيها دورا مهما، ويشغلها العنصر الاساسي الذي لايمكن الاستغناء عنه في العرض المسرحي وهو الممثل لانه الوسيط الذي يحمل كلام الشارع).
 هذا ما يؤكده ادولف ابيا بإن المسرح يقوم على فنون زمان وفنون مكان،هذان العنصران يستعصيان على التوحيد، فكيف نستطيع ان نبدع منهما عملا فنيا متكاملا، وكذلك كريك الذي سعى لاصلاح شامل للمسرح الانكليزي والاوربي، حين ادار ظهره للواقعية وتخلص من نظام الاجنحة(الكواليس) وكافة الزوائد الاخرى من ستائر وقطع ديكور تقليدية واستغنى عن المناظر المرسومة في عمق المسرح وأضواء مقدمة المسرح، وكذلك الى الغاء الممثل وطالب بدلا عنه بالدمية، مستند بذلك الى شخصية الممثل الذي تستغل المسرح لابراز مواهبه وبالتالي إضعاف العرض، لان كلما كان الممثل مبدعا سيسرق النظارة (فالممثلون يفسدون الكوميديا في راي.. أعني الممثلين الجيدين.. فموهبتهم أعظم من اللازم ومما يحتاج اليه، فتطغي على كل شيء.لا يوجد شيء على خشبة المسرح سوى هم. فشخصيتهم تطمس العمل الذي يقدمونه).

الائتلاف والاختلاف
من الصعب فك الائتلاف بين عمل ادولف ابيا وكوردن كريك، لقد ارتبطت طروحاتهما بمفهومها للمسرح الحديث، هذه الطروحات والمعالجات التي ولجت الى عالم الممثل ومصمم المناظر، والمدير الفني،والموسيقى وكل ما له علاقة بعناصر الشكل المسرحي وادراته، حاول الكثير من النقاد التفريق في اسلوب عملهما لكن دون جدوى، لتقارب رؤيتهما للمسرح الجديد، رغم ان الناقدارثر سيمونس تطرق لتاثيرات ابيا في كتابات وتنظير كوردن كريك وخاصة في محاوراته الاولى والثانية مع المدير الفني والمخرج المسرحي في كتابه (في الفن المسرحي والذي صدر عام 1905)، رغم ان الرجلان لم يلتقيا إلا في عام 1914، لكن في هذا العام كان صداه قد وصل الى مسامع البلدان التي تنتج مسرحا (لقد هز كوردن كريك المسرح العالمي من قبل بما اصطلح ناقد اميريكي على تسميته- الاوامر الصارمة والجريئة- فوضع اسس العودة الى خشبة مسرح خالية ومهيأة للتمثيل،لكن لايمارس على خشبة المسرح سوى الدراما الواقعية).
 كان لقاءيهما بالشيء الذي هو اكثر اهمية وهو، رفضهما للواقعية التي تتخذها اغلب المسارح في تقديم عروضها، هذا الرفض هو الذي قادهما للبحث عن مفاتيح لمغاليق العتمة الواقيعة وان كانت على مستوى التصميم للمشاهد المسرحية او طريقة الاخراج، او الاضاءة، العمل على ايجاد معالجات لمساقط الضوء على الخشبة، رغم اختلاف مرجعية كل واحد منهما بالعمل المسرحي، ابيا الذي كان ناقدا ومشاهدا مسرحيا، والذي كان معجبا جدا باعمال فاجنر الموسيقية ودرامياته، ومن ثم سعى لايجاد خصوصية مذهلة اثارت الانتباه لاشتغالاته الدرامية على موسيقى فاجنر، فاجنر وموسيقاه هو من افضى عليه بالسر لتكوين نظريته،(اولاً، لقد تبعت ما اخلته علي بصيرتي، وبعد ذلك فقط كنت ادرك الاسباب التي جعلت من الممكن إقامة نظرية).
 كان ابيا رجلا مؤثرا في مجرى تطور الخشة (ابيا فنان اثر عميقا في مجرى تطور الخشبة واتجاه النظرية المسرحية في زمن متاخر).
 وكوردن كريك، ينحدر من عائلة فنية ابوه الممثل الانكليزي الكبير (إدوارد وليم) وامه (إليانور أليس اوإلن تيري) أعظم ممثلات المسرح الانكليزي في جميع عصوره، وقد بدا حياته ممثلا في مسرحيات مهمة وهو لازال بعمر صغير.
ارتبط كثيرا اسمي ابيا وكريك معا، بدعوتهم للتخلي عن الفوتوغرافية التي تقدمها المسارح، لان فيها قتل للفن والابداع (فلقد دعو على التخلي عن مبدا التصوير الايقوني للواقع كهدف رئيس للمسرح والى طرح المسرح كفن له مرجعيته الخاصة).
 وكذلك من خلال عملها بايجاد المعالجات الجديدة لكل المشاكل التي يعاني منها المسرح انذاك، لم يستطع احد من فك ذلك الارتباط باسلوب عمل كل واحد منهما، انهما صاحبا ثورة اصلاحية في المسرح انذاك، ولانغالي اذا نقول بان معطياتها تستخدم للان، او تبنى على طروحاتهم اغلب الاجتهادات الحديثة بالمسرح، ويعزو ابيا سبب عدم صعوبة التفريق بين عمله مع عمل ابيا (نملك في اعماق ارواحنا الاهتزاز نفسه، الرغبة نفسها، نختلف فقط في طريقة تعبيرنا عنها، وفقا لاختلاف اذواقنا واختلاف ظروفنا، ماذا يهم؟) ،كذلك اتفقا على مصدر الالهام وهو فاجنر وموسقاه، والاهم هو دعوة فاجنر لعمل فني متكامل في المسرح او ما يسمى بالمسرح الشامل، والرؤية الجديدة لفن المستقبل، وهذه احدى اهم الركائز التي اتفقى عليها بدون ان يلتقيا.
ولقد سار ابيا على نفس مسار استاذه وملهمه فاجنر باهتمامه بالاضاءة والضوء حيث يعتبر الاضاءة (من الوسائل التي تُعطي للمكان والممثل قيمة تشكيلية كبيرة، فافرغ الخشبة من الاكسسوار وجعل الاضاءة بديلا عن الديكور).
 وكان فاجنر هو اول من فرض العتمة في صالة المتفرجين في العروض التي قدمها في مسرح الاحتفالات في بايروت
وظيفة المؤلف
يجد ابيا بان إرادة المؤلف المسرحي هي اللغة الفنية الموحدة التي يسترشد بها الديكور، وهنا يختلف تماما مع كوردن كريك وهذا هو اهم اختلاف بين الرجلين، الذي يجد بان المؤلف من خلال كتابته لتعليماته وملاحظاته وارشاداته، فيه تجاوز على عمل الاخرين، لانه بهذا سيصادر روح المبادرة والابداع، وسيكونون أسيري تلك الارشادات، وهذا فيه قتل للذائقة الفنية.
من جانب اخر يرى ابيا بان روح الموسيقى هي التي تعطي روح للدراما، والتي تحدد حركات التكوين البصري من انسجام وتتابع، في تواجد الموسيقى سيكون هناك تتابع هاروموني مترابط الاجزاء والانسجام بين عناصر الاخراج التشكيلية، هنا نلاحظ اختلاف جزأي بين طريحمها، من خلال وسيلة الطرح، وهذه تحدث عنها ابيا سابقا بأنهم يختلفون في طريقة التعبير وفقا لاختلاف أذواقهم وظروفهم،لكنهم اتفقا معا على وحدة التجانس والانسجام لانها الطريقة الوحيدة لتحقيق الادهاش البصري.

الـرمـزيـة



بقلم : أ.مجد القصص

المذهب الرمزي :

الأدب الرمزي هو الأدب الذي إذا قرأه القارىء العادي لا يفهم منه إلا ظاهره, أما القارىء المتأمل فيفهم منه هذا الظاهر ولكنه لا يقف عنده، بل يمضي إلى ما تحت سطحه. وما تحت السطح هو جوهر الأدب الرمزي. ولكن هذا الجوهر يتلقاه القارىء المتأمل بصور مختلفة في الذهن، صور تتفاوت في مقدار ما فيها من جمال ومعان وأهداف، والأعجب بأن قارئا متأملا آخر قد تتخايل له صور جديدة غير تلك التي مرت بذهن القارىء المتأمل الاول.
بدأت الحركة الرمزية في الأدب الأوروبي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأول ما نشأت في فرنسا، وكان أبطالها بعيدين عن المسرح وعلى رأسهم ( مالارميه ) و ( فرلان ) و( بودلير ) والذي حفزهم إلى حركتهم الرمزية هو الرد على رجال المذهب الطبيعي والواقعي وكانوا بذلك يتمردون على شعر البارناسيين ( أصحاب الشعر الموزون ) وقد وجدوا أن الحياة لا يمكن تصنيفها أو تحديدها، وأن هناك الكثير من العواطف والأحساسيس قد لا تخدم علماء الاجتماع في شيء ومع ذلك فهي ترمز للوجود كله.
تنظر الفلسفة الرمزية إلى الإنسان والحياة من حيث أن الذات هي الأصل ومن خلالها نرى مظاهر الوجود، وأن هذه المظاهر لا تنكشف لنا حقائقها إلا من خلال الحلم، فالمذهب الرمزي يربط بين عالمين : العالم المادي والعالم الغيبي، في وحدة الرمز ويلقي كل جانب ضوءه على الآخر، يقول بودلير " ليس كل ما في الأرض إلا وجود جزئي وما الحقيقة الحقة إلا بالحلم ".
يعتبر الرمزيون بأن الحقيقة لا تبدو في صورتها الصادقة الأصيلة إلا في أعماق الأشياء وليس تحت سطحها، وكانت طريقتهم في الكشف عن هذه الأعماق بالرمز والإيحاء والتلميح، وليس بالجهر والفضح والتصريح. لأن الرمز والإيحاء والتلميح في نظرهم هي عوامل خلاقة، تولد المعاني في ذهن القارىء في حين الجهر والفضح والتصريح هي من عوامل الهدم وتخريب الصورة الفنية وتعويد ذهن القارىء على البلادة والإتكال على غيره في معرفة الأشياء والوقوف عند ظاهرها وقوفا فقيرا ضحلا. ولهذا السبب حفلت آداب الرمزيين وقصائدهم بالألغاز والمعميات وبالصور البيانية وألوان التشابيه والمجازات التمثيلية المعقدة في معظم الأحيان.
أما في المسرح فيعتبر الكاتب المسرحي البلجيكي " موريس ميترلنك " (1862 – 1949م) هو مؤسس قواعد المذهب الرمزي في المسرح، كما يعتبره البعض الآخر مؤسسا للمذهب التعبيري أيضا. تأثر ميترلنك بالفلسفات الروحانية والميتافيزيقية، ورغم أن تعليمه الديني لم يؤثر به كثيرا إلا أنه آمن بالروح ايمانا عميقا، استقر ميترلنك في شبابه في باريس وقدم سلسلة مسرحيات من فصل واحد ذات مضمون رقيق ومن هذه المسرحيات " العميان " عام 1890 و " الدخيلة " عام 1890 و" موت تانتاجيل " عام1991. لقد أعلن متيرلنك في مقالته" تراجيديا كل يوم " من كتابه " كنز المتواضع " عام 1896م " أن مهمة الشاعر هي كشف الخصائص الخفية اللامرئية في الحياة، أي عظمتها وبؤسها اللذين لا علاقة لهما بالواقعية، فإذا ما بقيا بالمستوى الواقعي فسنظل نجهل هذا العالم الأبدي وبالتالي المعنى الحقيقي الموجود في القدر ".
نظّر ميترلنك لما يسمى ب " المسرح السكوني " وفيها يحرض الخبرة الصوفية وحالة اللاوعي بشكل مسرحي، وقد استعان ميترلنك بأعمال اسخيليوس كنماذج للدراما التي لا تتضمن حركة أو حادثة وإنما حدثا سايكولوجيا فقط، وبهذه النظرة تتسع الدراما الرمزية عنده لتلتقي مع كل التجليات المسرحية للحلم والخيال.
ارتأيت أن الخص مسرحيته الشهيرة " الطائر الأزرق " والتي كتبها عام 1908م وفيها يصور تجربة الإنسان في بحثه الدؤوب عن السعادة وحقائق الحياة، تلك السعادة التي يجوب بطل المسرحية بحثا عنها ليكتشف في نهاية الأمر أنها لا توجد إلا في أعماقه، وهو فقط تعوزه تلك القوة والروابط المعنوية التي تصل الإنسان بالآخرين والأشياء.
لقد ذهب الطفلان الصغيران في رحلتهما العجيبة للبحث عن الطائر الأزرق الذي يرمز عند ميترلنك للسعادة فتتكشف لهما أثناء رحلتهما كل سرائر الأشياء وضمائرها بفضل ماسة سحرية كانت قد أعطتها لهما إحدى الحوريات فزارا كل البقاع والممالك بلاد الذكرى، مملكة الليل، موطن السعادة، موطن الموتى، مملكة المستقبل الخ بحثا عن الطائر الأزرق ولكن دون جدوى، وفي كل هذه الأماكن التي ذهبا إليها كانا يريان العجائب والغرائب، ما يخيف ويروع، ما يفرح ويبهج وفي كل مرة يمسكان بالطائر الأزرق يتغير لونه أو يموت بين أيديهما، وفي نهاية المطاف يتبدد الحلم. يستقيظ الطفلان ليجدا نفسيهما ما زالا في منزل أبيهما الحطاب الفقير المتواضع، وعندما يتفقد الطفل عصفوره الذي طلبته جارته لإبنتها المريضة يلاحظ أن لونه قد أصبح شديد الزرقة فيقول : لقد ذهبنا بعيدا وهو موجود هنا. الدلالة هنا على أن السعادة لن نجدها إلا في أعماقنا عندما يغمرنا ذلك الفيض العاطفي وتنفتح أنفسنا نحو الآخرين. ينطلق الطائر الأزرق في الهواء إلى غير رجعة ليقول الطفل لجارته الصغيرة : لا تبكي سأمسكه مرة أخرى وهذه دلالة رمزية ثانية يريد ميترلنك أن يقول لنا بأن السعادة لا يمكن الإبقاء عليها إلا للحظات قلائل فيجد الإنسان نفسه أمام القدر. وهنا يبرز العنصر القدري المرمز في تلك الحادثة وجوهر الإنسان يتمثل في هذا البحث الدائم الذي لا تعرف له نهاية.
أيضا من أهم الكتاب الذي كتبوا في المسرحية الرمزية بعد ميترلنك  هو " ابسن " فقد تعددت المذاهب التي كتب بها ابسن، فقد كتب أعمالا مسرحية نسبت لكل من المذهب الطبيعي والواقعي مثل " مأساة الأشباح " والتي لو تخلت عن أثر البيئة والوراثة وهما اللذان يحلان محل القضاء والقدر في أحداث المأساة في المذهب الطبيعي لاعتبرت من أرقى مسرحيات ابسن الواقعية ، وهنا يجب أن يدرك القارىء بأن أعمال ابسن لا يمكن وصفها بالرمزية المطلقة باستثناء مسرحيتيه : برجنيت وبراند " أما بيت الدمية والبطة البرية " فتندرج تحت المذهب الواقعي إلا أن آثار المذهب الرمزي واضحة في هذه الأعمال. وهنا أجد طريفا أن أذكر حادثة حدثت مع ابسن وتحديدا عندما كتب مسرحيته أو قصيدته الشعرية " بيرجنت " أن ابسن عندما كتبها لم يقصد أن تمثل على المسرح بل كان الهدف من كتابتها هو القراءة ولتنبيه شباب بلاده الكسلان المتراخي إلى عيوبه الخلقية والسلوكية، وإلى أنه يسلم روحه لأحلام الكسالى المتراخين في زمن استيقظت فيه الأمم على صوت الثورة الصناعية الإشتراكية المدوى وما أحدثته الأفكار الفلسفية العقلية الجديدة من وعي عام في جميع الأركان. لكن ابسن سمع أن رجال المسرح الألماني يخرجون مسرحيته الرمزية " بيرجينت " فلم يملك إلا أن سافر إلى ألمانيا ليشهد ماذا يصنع هؤلاء الألمان في تلك القطعة التي يكاد يكون اخراجها في المسرح مستحيلا. فلما شاهدها راعه الإخراج ثم التمثيل لكن الذي راعه أكثر وملك عليه تفكيره هو أن هؤلاء الألمان قد فسروا المسرحية تفسيرا رمزيا وخرجوا لها من المعاني ما لم يخطر للمؤلف على بال. وهذا هو الأدب الرمزي.

وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن أعمال " وليام باتلر ييتس " يمكن أن تصنف تحت المذهب الرمزي مثل مسرحيتة ( كاثلين ني هوليهان ) ومسرحيته الأخرى " موطن الحبيب ". كما أننا كنا قد مررنا في مسرح العصور الوسطى على المسرحيات الأخلاقية وهذه المسرحيات يمكن أن تصنف أيضا في مدارج المذهب الرمزي.

مسرح العبث


مسرح العبث

   بقلم:أ.مجد القصص

أ‌) المسرح العبثي في اوروبا الغربية

العنوان يكتسب دلالاته من معرفتنا بأن اوروبا كانت مقسمة الى كل من اوروبا الشرقية واوروبا الغربية الى ان أدت البروسترايكا في التسعينيات من القرن المنصرم الى تشرذم الاتحاد السوفيتي ودول اوروبا الشرقية الموالية له فكرا ومنهجا. سأعطي اضاءة في الجزء الاول على مسرح العبث في اوروبا الغربية وفي الجزء الثاني سأتناول مسرح العبث في اوروبا الشرقية في محاولة لتغطية الاتجاهيين الملتقيين في بعض المفاهيم والمختلفين  في البعض الاخر.
بداية كان الناقد مارتن اسلن (Martin Esslin)هو اول من ابتكر مصطلح مسرح العبث في كتاباته النقدية عن المسرحيات التي كتبت في الفترة ما بين 1950 - 1960م وهذا المصطلح تم اشتقاقه من بحث "اسطورة سيزيف" الذي قدمه الكاتب والفيلسوف الفرنسي الكبير البير كامو (Albert Camus) عام 1942م. قام كامو في هذا البحث بتعريف الحالة الانسانية بأنها حالة عبثية لامعنى لها متلاقيا مع كل من صموئيل بكيت، ارثر اداموف، يوجين يونسكو، جان جنيه، هارولد بنتر وآخرين كانوا قد قدموا في كتاباتهم فكرة ان الانسان يعيش في كون لا يملك مفاتيحه وكون لا يمكن فك رموزه، بالاضافة الى ان مكانة الانسان في هذا الكون بلا جدوى او معنى، وانه مرتبك، مضطرب، وامنه مهدد.
ان جذور مسرح العبث تعود الى الفترة ما بين 1920و1930م عندما كان بعض رائدي المسرح المحدثين آنذاك يختبرون التجريب في المسرح ولكننا نستطيع ان نؤكد بأن مسرح العبث ما هو الا ترجمة عملية لافكار المدرسة السيريالية الفرنسية التي كانت سائدة في حينه ولكنها اتت متأخرة حيث انعكست في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. كما اننا نستطيع اعتبار افكار المسرحي انطونين ارتو جسرا بين السرياليين والعبثيين حيث طالب بالعودة الى الاسطورة والسحر والى التعرض للنزاعات العميقة في العقل الانساني كما انه طالب بايجاد ميثولوجيا جديدة للانسان ودعا الى ايجاد مسرح قادر على ان يعبر عما تعجز اللغة عن التعبير عنه. كل هذه الافكار حملها جزئيا او كليا العبثيون.
لم يكن السرياليون وافكار ارتو فقط وراء ظهور مسرح العبث بل ان هناك اسبابا اخرى: اولا الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها اثارا مدمرة وغياب القيم والاعراف الصالحة، وحدوثها ادى الى انعدام امن الانسان وفقدان المعنى لحياته التي اصبحت اعتباطية. اما السبب الثاني فله علاقة بصعوبة العيش تحت تهديد القنابل  النووية التي تم استخدامها عام 1945م. ثالثا يمكن اعتبار ظهور مسرح العبث كرد فعل لغياب البعد الديني في الحياة المعاصرة. هذه الحالات مجتمعة التي عاشها الناس والكتاب كانت من اسباب ظهور مسرح العبث ليعبر عن واقع أليم يعيشه الغرب.
 يمكن اعتبار ظهور مسرح العبث بانه محاولة لترميم اهمية الاسطورة والطقوس في حياة الناس من خلال وضع الانسان في مواجهة قاسية مع الواقع والظروف التي تحيط به ويتم ذلك من خلال اعادة زرع الحاسة المفقودة لديه والتي بسبب فقدانها عدم التساؤل عن الحس الكوني وعدم الشعور والقلق الفطري. يطمح مسرح العبث الى تحقيق ذلك من خلال هز ثوابت الانسان ليخرجه من وجود اصبح ميكانيكيا ومملا واتكاليا. من اجل تحقيق ذلك افترضت المسرحيات العبثية شكلا مبتكرا غير مألوف، يهدف الى احداث الرعب والدهشة عند المتلقي وهز حالة السكون لديه وزعزعة راحته ما امكن، بالاضافة الى جعله ينخرط في مواجهة غيبية يمتد مداها حتى اقصى الحدود الانسانية طلبا لاعادة النظر والتشكيك في الحياة والاهتمامات الحياتية التقليدية.
ان الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية اتسمت بالالحاد وعدم وجود معنى، فلم يعد ممكنا فيها ان يتم استخدام نفس المعايير والاشكال المسرحية التقليدية التي لم تعد مقنعة والتي فقدت مصداقيتها، فجاء مسرح العبث مسرحا بمنتهى الوضوحمتمردا على كل الاشكال المسرحية التي سبقته، لذا وكما يقول د. جان كوليك (Jan Culik) "مسرح العبث هو مسرح ضد المسرح (Anti Theatre) فقد كان مسرحا سرياليا، لا منطقيا، بلا عقدة او صراع، يبدو الحوار فيه ضربا من الهراء حيث قوبلت  المسرحيات العبثية بداية اثناء عروضها بعدم الفهم وبالتالي الرفض من الجمهور". 
ان اهم مظاهر الدراما العبثية هي عدم ثقة كتاب العبث باللغة كوسيلة من وسائل الاتصال. اعتبروا ان اللغة قد اصبحت وسيلة لتبادل شيء مؤطر نمطي وبدون معنى، وان الكلمات تبقى سطحية عاجزة عن التعبير عن جوهر تجربة الانسان وانها لا تستطيع التغلغل الى عمق هذه التجربة. لجأ كتاب العبث الى الخطاب المؤطر والمؤسلب الذي يستخدم الكلاشيهات والشعارات والثرثرة التقنية بطريقة تشويهية وتلميحية وتكسيرية. كان الهدف من السخرية من الانماط الحوارية المؤسلبة والمؤطرة يرمي لدفع المتلقي لادراك امكانية وجود ما هو وراء مسلمات الخطاب المعتادة حتى يستطيع تحقيق التواصل بطريقة اكثر صدقا واصالة، لان الخطاب المؤطر يعمل كحاجز بيننا وبين ما هو عليه العالم الحقيقي. أي انه كي نستطيع الاتصال بالواقع الطبيعي لا بد ان نرمي جانبا العكازات الزائفة للغة المؤسلبة وان ننزع عنها اي مصداقية. ان الاشياء المرئية  في مسرح العبث اكثر اهمية من اللغة فالحدث يتجاوز ما يقال عنه، لذا فقد ناضل مسرح العبث لايصال الادراك ككل غير مجزء، ولهذا كان لزاما عليه ان يذهب الى ما وراء اللغة.
من ميزات الدراما العبثية الاخرى بأنها تهدف الى تخريب المنطق وتتطلع الى غير المتوقع والى المستحيل منطقيا. يقول فرويد (Sigmund Freud) "هناك احساس من الحرية نستطيع ان نستمتع به عندما نكون قادرين على التخلص من سترة تكبيل المنطق"، فمحاولة العبثيين لتفجير نطاق المنطق واللغة ما هي الا محاولة لتحطيم الجدران المحيطة بالحالة الانسانية، فاللغة حسب ما هو معروف يتم بموجبها تعريف الهوية الفردية للكائنات ومن خلالها نطلق الاسماء على بعض، ولهذا يعتبرها العبثيون مصدر الانفصال، فكل شيء له هوية واسم يميزه عن الآخر وفي المقابل فانهم يرون ان فقدان اللغة المنطقية سوف يساعد البشرية نحو الوحدة مع الكائنات الحية. لم يكتف العبثيون برفض اللغة والمنطق بل قاموا من خلال كونهم لا منطقيين برفض العقلانية ايضا. جاء رفضهم للعقلانيين تماما كرفضهم للغة لان العقلانيين قاموا بالتعامل مع المظاهر السطحية للاشياء وليس جوهرها وعمقها. الهراء في قاموسهم يفتح المجال لاستراق النظر في المالانهاية كما انه يمنح الانسان حرية تشعره بالنشوة ويجعله على اتصال مع جوهر الحياة ناهيك عن اعتباره مصدرا لكوميديا عظيمة.
من الجدير بالذكر ايضا بان المسرحية العبثية تفتقد الى العقدة الدرامية، فكل من العقدة وقوى الشخصيات والصراعات القائمة بينها تعود الى عالم متدرج السلطات ومقبول به وذي قيم متصلبة والذي شكل مؤسسة دائمة ولذا فان اي عقدة تفقد معناها في وضع اصبحت فيه المؤسسة وواقعها الظاهري بلا معنى. وبغض النظر عن اداء الشخصيات المشوش او المهووس فان هذه النماذج للشخصيات تؤكد حقيقة انه لا يجري اي امر لتغيير وجودهم فوجودهم عبثي لاقيمة له.
الدراما العبثية اقرب ما تكون الى مقولة شعرية ومشابهة للموسيقى الى حد كبير حيث تعتمد على خلق جو او تجربة لاوضاع الانسان النمطية. المسرحية العبثية تقدم لنا حالات واوضاعا على عكس المسرح التقليدي الذي يقدم احداثا متتابعة، وحيث انها تقدم نمطا من الصورة الشعرية لذا فهي تستخدم عناصر بصرية لايصال حالاتها اضافة الى الحركات والانواع المختلفة من الاضاءة. وهي ايضا مغايرة للمسرح التقليدي الذي تكون فيه اللغة هي العنصر المسيطر فاللغة في مسرح العبث هي عنصر واحد من مجموعة عناصر صورية شعرية ذات ابعاد متعددة.
مسرح العبث هو بالكامل مسرح قصيدة يستخدم مؤثرات مشهدية تجريدية مستمد معظمها من المسرح الشعبي (Popular Theatre) مثل المايم، الباليه، الاكروبات، العروض البهلوانية او عروض مهرجي المسرحيات الموسيقية، التي استلهمت الكثير من الافلام الصامتة والكوميدية وتأثرت ايضا بالافلام الناطقة الاولى التي اعتمدت الكلام الذي لا معنى له مثل افلام لوريل وهاردي (Laurel and Hardy). وقد كان تاثير العبثية كبيرا على الكثير من كتاب الرواية امثال كافكا.
من خلال عقد مقارنة سريعة بين هذه الافكار التي سادت في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم مع بعض الاعمال العربية والاردنية في العقدين الماضيين نستطيع ان نستخلص ان العبثية قد وصلت الى عالمنا العربي متأخرة والسبب في ذلك حسب اعتقادي هو حرب الخليج الاولى الثانية والهجمة العنيفة على شعبنا الفلسطيني واثارها المدمرة على شبابنا المخرجين مما حثهم الى اللجوء لنصوص عبثية لتقديمها تعبيرا عن انفسهم وتعبيرا عن الحالة اللاانسانية والانتهاك المرعب للشخصية العربية من قبل المستعمرين الجدد وعسى ان نعبر هذه الازمة كما عبرها الغرب في السبعينيات من القرن المنصرم. 
ب‌)     المسرح العبثي في اوروبا الشرقية:
في الوقت الذي كانت فيه اوروبا الغربية تكتب لمسرح العبث وتجسده على خشبة المسرح بين الفترة من 1950- 1960م وجدت أوروبا الشرقية نفسها تعيش في عالم تشكل فيه العبثية جزءا اساسيا من حياتها اليوميةولكي نستطيع الولوج الى عالم العبث الحياتي وانعكاسه على الدراما في اوروبا الشرقية لابد بداية من القاء نظرة تاريخية على الظروف السياسية والاجتماعية التى كانت سائدة اثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
محاولةهتلر احتلالروسيا أثناء الحرب العالمية الثانية أعطى روسيا فرصتها الكبيرة لان تمد تأثيرها وتحديدا ايدولوجيتها الاشتراكية(السوفيتية)إلى دول أوروبا الشرقية، وبغض النظر عن صحة الادعاء الذي يتبناه بعض المؤرخين من عدمه بان ستالينقام في السنوات الأخيرة من الحرب بتحويل هدفروسيا مندحر النازية الى غزووسط أوروبا وتقسيمها فانه يبقى من الثابت أن أوروباقد تم تقسيمهاإلى معسكرين: معسكر حليفللحلفاء الغربيينومعسكر حليف لروسيا ومعتقداتها الاشتراكية.
قوة الجيش الروسي مكنت ستالينمن تأسيس أنظمة فيدول أوروبا الشرقيةموالية لروسيا ومبنية على الأيدلوجية السوفيتية ومعزولة عزلا كاملا عن باقي دول اوروبا الغربية. هذا المعسكر الشرقي الجديد كان يخضع قبل الحرب العالمية الثانية لأنظمةسياسية مختلفة: إما لنظام إقطاعي ملكي كما هو الحال في رومانيا أو لنظام برلماني غربي كما هو الحال في تشيكوسلوفاكياولكن بعد قدوم السوفيت خضعت لأنظمة على النمط السوفيتي العسكري ومرت هذه الدول بتحولاقتصادي وسياسي قاس حيث تم اعتباره من قبل البعض تجربة مؤلمة.
تعرفنا في السابق على جوهر مسرح العبث في اوروبا الغربية هذا النوع من الفن الذي سلط الضوء على ارتباك وقلق الانسان، هذا الارتباك النابع من حقيقة عدم قدرة الانسان الاجابة على اسئلة وجودية اساسية مثل: لماذا نعيش؟ لماذا يجب ان نموت؟ لماذا لا توجد عدالة؟ ولماذا يعيش الانسان ويتعرض الى هذا الكم من الالم؟
لقد ادعت الاشتراكية في دول اوروبا الشرقية بأنها قادرة على الاجابة على كل هذه الاسئلة بل اكثر من ذلك بأنها قادرة على تخفيف الم الانسان وتحقيق العدالة بين البشر، وأي شك في ذلك كان يعتبر تخريبا. على المستوى الرسمي، كان الاشتراكيون يعتقدون بأنه سيكون كافيا ومقنعا تطبيق المعادلة الماركسية القادرة على تغطية جميع جوانب الحياة والتي ستكون نتيجتها الحتمية هي تحقيق الجنة على الأرض.لقد تبين من خلال نطاق الممارسة العملية على ارض الواقعفي وقت مبكربأن تطبيق المعادلة الماركسية فشلت فيتوفير الأجوبة علىتلك الأسئلةبشكل اقل من الأنظمة الفلسفية معقدة التراكيب التي تم تبنيها في الغرب.إن تطبيقها بالقوةفي الدول الاشتراكيةقد جلب معه الما ومعاناة كبيرة. لقد كان واضحا للبعض منذ البداية أن تطبيق هذه الفكرة المبسطة كان عبثيا ومع ذلك فقد تم جعلها لتحكم جميع جوانب الحياة وكان على الناس أن يتكيفوا معها وان يتمتعوا بها، وان مجرد الشك بها كان يعتبر مخالفة. هذا التطبيق العشوائي للفكر الماركسي المبسط في بعض الأحيان والذي تم جعله يتحكم في حياة الملايين وإجبارهم على سلوك مغاير لطبيعتهم البشريةجعل هذه الملايين يرون بوضوح معادلة العبثية: وهكذا نرى أن الأنظمة التي اعتمدت النمط السوفيتي قد أدخلت إلى حياة أمم بكامل طبقاتها في أوروبا الشرقية ما كان مهما لأعداد قليلة من الأفراد ذوي الحس المرهف في أوروبا الغربية.
هذا التحليل ليس لنصل الى نتيجة بأن عبثية الحياة في اوروبا الشرقية تختلف عن عبثية الحياة المعاشة في اوروبا الغربية بل على العكس، فان العبثية في المعسكرين الشرقي والغربي قد نشأت من غموض وضع الانسان في هذا الكون، امام خوفه من الموت، اضافة الى سعيه الفطري نحو المطلق. الا ان ممارسات السلطةالرسميةفي أوروبا الشرقية التي كانتتنظر بازدراء إلى هذه الأسئلة الوجودية الأساسية والتي اعتمدت على قوة وقدرة المعادلة الماركسية قد خلقت واقعا يجعل من العبثية تجربة أساسية يتم الشعور بها من قبل كل من هو على تماس معهذا الواقع.
دعونا ننظر الى هذه الحالةبشكل آخر، فمسرح العبث في اوروبا الغربية يمكن ان ينظر اليه كتعبيرعن حالة الغضب والإحباطالموجودة عند بعض المتنورين النابعة من أن الناس يعيشون تحت حياة ثانوية نمطية وغير ملهمة، إمابسبب خياراتهم المقصودة أو بسبب أنهم لايعرفون أفضلمن ذلك وانه ليس لديهم أفكار أو قدرة لمساعدة أنفسهم، وعلى الرغم من ان هذا الغضب قد يبدو استعلائيا أوفوقيا إلا انه كان ممزوجاباليأسويتجلى تقديرنا لهؤلاء المتنورين أكثر عند النظر إلى أوروبا الشرقية حين نراهم محقين لإدانتهم الحالة الثانوية والوسطية التي تعيشها الشعوب هناك، على الرغم من أن الكثير من أمم أوروبا الغربية تعيش بسعادة زائفة دون إدراك للحالة العبثية التي تعيشها، حيث أن الفارق هو انه كان من الممكن إدراك ورؤية الآثار الثانويةوالوسطية في أوروبا الشرقية لأنه قد تم رفعها إلى مبدأ حكم مقدس وفردي وهي كانت تحكم بقبضة من حديد. لذا وعلى عكس اوروبا الغربية فلربما اكتشف الشعبفي أوروبا الشرقية بأنالعيشليس مريحا تحت قيادة الحالة الثانوية.
أما عن نشوء مسرح العبث في اوروبا الشرقية فقد ارتبط ظهوره بحالة الهدوء النسبي الذي كان يعيشه المعسكر الشرقي بعد موت ستالين . حيث كان معروفا - وتحديدا في العقد الاول من استلام الشيوعيين الحكم-  بأنه لم يكن مسموحا لاي كان ان يكتب شيئا معتمدا على تجربته الشخصية، وان فعل فان حياته ستتعرض للخطر. ان وظيفة الفنآنذاك كانت محصورة لخدمة الايدلوجية الاشتراكية، اضافة  الى اهداف دعائية للحزب الاشتراكي. الا ان هذا الوضع قد تغير ببطء في السنوات التي تلت موت ستالين عام 1953م. ففي عام 1956م قامت محاولتان للتحرر من العسكريتارية السوفيتية: الأولى كانت في هنغاريا والتي تم قمعها، والثانية في بولندا والتي أنتجت نوعا من التوازن استمر لعدة سنوات. اما تشيكوسلوفاكيا فقد  بدأت بذور التمرد فيها تبرز في نهاية الخمسينيات ووصلت الى اوجها في 1962-1963م. لذا تعتبر الستينيات من القرن المنصرم هي بداية ظهور مسرح العبث في اوروبا الشرقية كتابة وتجسيدا فوق الخشبة، الا انه كان محدودا وانحصر في دولتين هما الاكثر تحررا آنذاك: بولندا وتشيكوسلوفاكيا.
ان مسرح العبث في اوروبا الشرقية، وبلاآ ادنى شك، قد تأثر بمسرح العبث في الغرب الا  انه يختلف عنه من حيث الشكل والمضمون ووقع الصدمة. يلاحظ ان الدراما العبثية الشرقية كانت اقل تجريدا منها في الغربية، اضافة الى ان المسرحيات في الغرب كانت قد تعاملت مع معضلة فرد او مجموعة افراد، وفي وضع تعرية كبير واساسيات ميتافيزيقية. اما في اوروبا الشرقية فقد تعرضت مسرحيات العبث للفرد الواقع في مصيدة النظام الاشتراكي، موصلة بأن النظام الاشتراكي هو نظام متماسك وخطير، والى حد ما واقعي، كل هذا كان يتم من خلال مجازات شفافة . حيث نلاحظ بأن العبثية في المسرحيات الشرقية هي نتاج لافعال من الغباء او لاشخاص مضللين او شريرين. ولا تظهر هذه الادانات بشكل واضح بل بشكل ضمني. اضافة الى ان عبثية الحياة لا يتم عرضها بظروف ميتافيزيقية. نستطيع القول بأن المسرحيات الشرقية اشبه ما تكون الى مسرحيات اشتراكية ناقدة وساخرة. وعلى ضوء ذلك فأن رسالة مسرح العبث في الشرق والغرب لا تختلف في طرق ايصالها الى الجمهور، الا  ان مسرحيات العبث في الغرب قد تكون قادرة اكثر على ايصال افكارها بوضوح اكبر لان كتاب الغرب قد عايشوا ولمسوا تجربة العبث المحيطة بهم. والاختلاف الاخير هوان الغرب عندما توقف عن كتابة مسرحيات العبث في االستينيات من القرن المنصرم كانت الستينيات والسبعينيات في اوروبا الشرقية هي مرحلة التعبير لديهم عن مسرح العبث.
في النهاية وتتبعا للظروف السياسية التي عاشتها دول اوروبا الشرقية لا بد من الاشارة الى ان تشيكوسلوفاكيا قد تعرضت الى الغزو مجددا من السوفيات في عام 1968م بعد محاولتها للتمرد عليه. هذا الواقع الجديد ادى اما الى اختفاء كتاب العبث (اختفاء الكتابة المعبرة عن الفرد) واما الى استمرار الكتابة بغض النظر عن امكانية نشرها او تجسيدها على خشبة المسرح، او الى واقع ثالث وهو الهجرة الى الغرب والاستمرار في الكتابة العبثية، من اشهر هؤلاء الكتاب الذين رحلوا عن تشيكسلوفاكيا هو فاكلاف هافل (Vaclav Havel) حيث كتب مسرحيات كثيرة دافع فيها عن قيم الانسان الاساسية. اما في بولندا فكان الوضع على العكس تماما حيث استمروا في كتابة مسرحيات العبث منذ بداية الستينيات ودون مضايقة من السلطات كما تمت طباعة مسرحياتهم وتجسيدها على الخشبة واستمر هذا الحال الى نهاية السبعنيات من القرن المنصرم.
اخيرا، لقد كان الألم والدمار اللذان خلفتهما الحرب العالمية الثانية في اوروبا وراء ظهور الأسئلة الوجودية الكبيرة على السطح وبالتالي الى ظهور مسرح العبث. كما ان فشل تطبيق المعادلة الماركسية في ايجاد جنة للانسان على الارض كان وراء ظهور مسرح العبث في اوروبا الشرقية. هذا يضعنا امام نتيجة مفادها بأن تحقيق العدالة وتخفيف الام البشرية يحتاج الى نظام ثالث قد يكون موجودا الا انه لم يطبق في السابق ولا حتى في يومنا هذا. اما النتيجة الثانية التي نستخلصها ايضا وهي ان مسرح العبث ليس كبقية المدارس المسرحية الاخرى التي جاءت متمردة على ما سبقها، بل هو مسرح لن يختفي وسيبقى يظهر هنا وهناك، فعندما نرصد ظهور مسرح العبث في منطقة ما فهذا يعطينا مؤشرا بأن هذه المنطقة يتعرض فيها الانسان الى الكثير من الالم، اضافة الى ققدان القيم الانسانية فيها، وعلى ضوء ذلك فأن اختفاء مسرح العبث يعني بأن العالم قد اصبح افضل وأن مقدارا كافيا من العدالة قد تحقق.

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : رشيد شكري